Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناMonday 26/08/2013 Issue 14942 14942 الأثنين 19 شوال 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

منذ اندلاع الثورة الفرنسية تميز رأيان في أدبيات السياسة الحديثة.. الأول يرى أنها كارثية لأنه نتج عنها فوضى وإرهاب كشف خطأ التغيير المفاجئ وضرورة التدرج عبر النظام والمؤسسات.. بينما الثاني يرى أنها ضرورية وأن بداياتها المؤلمة طبيعية فلا علاج دون ألم.

وفيما يؤكد الأول ظهور علل فادحة أنتجتها الثورة فإن الثاني يرد بأنها من تراكمات النظام القديم كشفتها الثورة ولم تنتجها، أما الحنين لاستقرار النظام القديم فهو استجابة خاطئة للعلاج مثل المريض الذي يفضل المسكنات المؤقتة ويخشى العلاج الجراحي المؤلم.

“من المبكر الحكم على الثورة الفرنسية!” مقولة طريفة ينسبها غربيون لزعيم الثورة الصينية ماو (وثائقياً هي ليست لماو بل لرئيس الوزراء زهاو). هذه المقولة يتداولها الإعلام الغربي المولع بحكمة الصين العميقة في الزمن والممتدة حضارتها لآلاف السنين دون انقطاع، لأن ظاهر المقولة كأنه يعني الثورة الفرنسية الأولى عام 1789 رغم أن المقصود هو الثورة الثقافية بفرنسا عام 1968.

أهمية الثورة الفرنسية الأولى هي أنها أسست المبادئ الحديثة لحقوق الإنسان والمواطن، رغم أنها أنتجت فترة اضطرابات وإرهاب في بداياتها، بينما الثورة الفرنسية الثانية التي اندلعت عام 1848 وانتشرت بأوروبا، وأول ثورة أطلق عليها “ربيع”، فشلت تماماً في اسقاط أي نظام، لكنها نقلت أوروبا إلى عصر جديد حتى بالدول الكبرى التي لم تقع بها مثل بريطانيا.. فبعدها صُفي النظام الاقطاعي نهائياً وظهر الحكم الدستوري الذي مهد للديمقراطية الغربية الحالية.. ومن هنا درجت فكرة صعوبة الحكم على مآلات الثورات الشعبية بسنواتها الأولى.

وفي عالمنا العربي، ما هي مآلات ما سمي الربيع العربي بعد أن دخل غرفة الطوارئ في مصر، فيما بقية دول الربيع ليست بأحسن حال منها باستثناء تونس؟ البعض بشر بإنجازاته منذ أيامه الأولى بينما بعض حذر من كوارث التغييرات المفاجئة. وإذا كان الربيع بدأ رومانسياً تقدمياً صفق له العالم لأنه احتجاج سلمي لتحسين أحوال المعيشة والحرية والمساواة، فإن المحتجين ونخبهم اكتفوا بالاحتجاج الذي أسقط أنظمة حكمهم وتركوا للآخرين بقية المهمة الأصعب وهي بناء مؤسسات الدولة الجديدة!.

اختلفت حظوظ هذه الدول في بناء مؤسساتها الجديدة، لكن أغلب البناة لم يكونوا من طلائع الثوار ولم تكن أهداف الثورة من أولوياتهم أو لا تعنيهم بل كانت لهم توجهات أخرى. وهذه التوجهات المنحرفة حدثت في كثير من الثورات بالقرن العشرين.. ونابليون سبق أن ألمح لذلك في بداية القرن التاسع عشر: قائلاً: “الثورة لا يمكن أن تُصنع أو تمنع. الشيء الوحيد الذي يمكن عمله هو أن يعطيها أحد أبنائها اتجاهاً بفضل انتصاراته”.

في توجيه مسار الثورة يمكن تمييز نوعين من الثورات بالقرن العشرين: تلك المؤدلجة التي وجدت من يوجهها منذ البداية إلى حزبه (الثورة الروسية، الصينية، الكوبية..)، والأخرى ذات الطابع الديمقراطي (الهند، جنوب إفريقيا، دول أوروبا الشرقية..) التي واجهت تحديات جسيمة.. تقول الباحثة شيري برمان في تقريرها بمجلة شؤون أمريكية: “الديمقراطية الليبرالية المستقرة لا تظهر غالباً إلا في نهاية الصراعات الطويلة العنيفة، مع العديد من التقلبات والمنعطفات والبدايات الخاطئة والطرق الالتوائية.. تاريخياً، كان معظم التحولات الأولية بداية للعملية الديمقراطية وليست نهاية لها..” وتزعم الباحثة أن ما يحدث من اضطرابات ببلدان الربيع العربي هو البداية وليس النهاية!.

الاحتجاجات في دول الربيع العربي بدأت بطابع شعبي ونجحت في ربط الحقوق مع الجماهير لتتحول إلى وعي جمعي جديد يؤسس حالة انتقالية للبلدان العربية إلى زمن جديد، وأسست بيئة لبناء حقوقي وديمقراطي جديد، إلا أن هذه البيئة تفتقر لبنية مؤسسية تحتية التي صار يؤسس بعض لبناتها حركات أخرى غير ديمقراطية على رأسها الجماعات المؤدلجة التي تريد إعادة بناء الدولة وفق إيديولوجيتها الخاصة.

هنا ظهر الخوف من أن بناء مؤسسات الدولة الجديدة لا يقوم به التكنوقراط والحقوقيون بل المؤدلجون الذين ليست قضيتهم حقوقية ولا اقتصادية لتحسين المعيشة بل إيديولوجية تقود الناس بالخطب والعواطف إلى أحلامها الموعودة. وثمة خوف طبيعي آخر مصدره سرعة الانتقال من القديم إلى الجديد كما وصفها السياسي الأمريكي جون كالهون بكتابه “مقال في الحكومة”: “الفترة الفاصلة بين ضعف المؤسسات القديمة ونشوء وتشكل الجديدة لا بد بالضرورة أن تكون فترة شك، ارتباك، أخطاء، وتطرف هائج وشديد”.

الخوف من الوضع الجديد في بلدان الربيع العربي له مبرراته، لأن الذي وصل إلى سدة الحكم هي تيارات ليس في أجندتها الديمقراطية ولا حقوق الإنسان.. وليس مصدر الخوف دعاة الحريات والحقوق بالداخل فقط بل حتى بالخارج كتبت تقارير عن تجاوزات حقوقية فادحة، حتى تمنى بعض المراقبين تدخل العسكر في مصر لمنع الأخوان المسلمين من الاستفراد بالدولة، وقد لا يقولها المسؤولون السياسيون الغربيون صراحة لتعارضها مع الشرعية والدبلوماسية لكن ثمة مراقبون غربيون قالوها بوضوح، كما فعل كبير محرري الشؤون الخارجية بصحيفة “وول ستريت”.

ولا ننسى المخاوف التي تثيرها بعض التجارب الديمقراطية السابقة التي فازت بها أحزاب متطرفة صادرت أبسط الحقوق وجاءت بدكتاتوريات شرسة وأنظمة دموية مدمرة كما في ألمانيا وإيطاليا قبل الحرب العالمية الثانية.. وهنا يصبح خيار التخوف بين حالتين أحلاهما مرّ: إما الالتزام بالشرعية الجديدة، وما يثيره من احتمال تحول النظام من الديمقراطية إلى دكتاتورية شرسة، أو تجاوز هذه الشرعية إلى شرعية تستند إلى مبدأ حماية المجتمع والدولة من الانزلاق بالفوضى، وما يثيره من احتمال الحكم العسكري الاستبدادي!.

الآن ثمة أمر واقع، وعلى ما يظهر أصبح مؤيدو قانون الطوارئ في مصر أكثر من معارضيه! فهل سيؤدي ذلك إلى حكم العسكر لفترة طوارئ طويلة أم أنها فترة تصحيحية مؤقتة وتعود المياه إلى مسارها الديمقراطي؟ يبدو أن كلا الاحتمالين لن يقعا، فمن الصعوبة العودة لحكم العسكر على الطريقة القديمة فالناس لن تقبل، ومن الصعوبة أيضاً العودة لنظام ديمقراطي على الطريقة المتقدمة فالظروف لن تسمح.. يبدو لي أن ما سيحدث هو نوع من الديمقراطية المنتقاة أو الموجهة على غرار ما حدث في بعض بلدان أوروبا الشرقية وروسيا.. في كل الأحوال فإن كافة الاحتمالات واردة زمن الثورة!.

alhebib@yahoo.com

بعد غرفة الطوارئ هل يموت الربيع العربي؟
د.عبد الرحمن الحبيب

د.عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة