Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSaturday 07/09/2013 Issue 14954 14954 السبت 01 ذو القعدة 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

تناول أبو العباس المقريزي في المواعظ والاعتبار (1-408-409 - الطبعة القديمة) محتويات خزانة الفاطميين، فذكر وَقْرَ خمسة وعشرين جملاً نهبها الوزير أبو الفرج محمد بن جعفر المغربي.. ومن قصص النهب أن المماليك كانوا يلبسون جلود الكتب المُتْقَنة في أرجلهم ويحرقون الكتب

وذكر تلال الكتب مما سَفَتْهُ الرياح فاختلط، وذكر أن الموجود الباقي يزيد على مئتي ألف كتاب!.. وذكر خزانة في القاهرة بالقصر فيها ألف وستمئة ألف كتاب!.

قال أبو عبدالرحمن: نظراً للخزانات الأخرى في العالمين العربي والإسلامي الموثَّق تاريخُها لا أستبعد بعض الشيء مما ذكره المقريزي مع العلم بتعصُّبه للفاطميين ومبالغاته، ومما لا يقبله العقل دعواه أن كتاب العين يوجد منه في تلك الخزانة ثلاثون نسخة منها واحدة بخط الخليل بن أحمد، وذلك سنة (460هـ).

قال أبو عبدالرحمن: هذه كِذْبةٌ صلعاء؛ فما ألَّف الخليل بن أحمد حرفاً واحداً من العين، ولكنَّ ترتيبه الحروف على المخارج معروف، والعين من تأليف تلميذه أبي المظفر الليث من حفدة نصر بن سيار، وهو وزير متشبِّث باللغة، وما كان عن الخليل فمعروف بنقل العلماء، ومن أكثر الناقلين عنه سيبويه في الكتاب، وكيف يَغْتَمُّ الأمرُ على العلماء من عهد الخليل إلى وفاة الليث، ويجزمون بأن العين من تأليف الليث - ما عدا ابن دريد - ثم توجد نسخة بخط الخليل بالمغرب مع تسع وعشرين نسخة أخرى بعد قرنين!!.

ومن المبالغات ما يرد في كتب الفهارس والبرامج والأثبات والمَشيخْات من الإجازة العامة بكتب مفقودة، وما الرواية في هذا العصر إلا إحياء لتاريخنا لا غير بأن تجيز بالقراءة كتبك أو شيئاً من كتب شيوخك قراءة، وهكذا الكتب الموجودة عندك من كتب الأسلاف أو المتأخرين بقراءة أو إجازة عامة؛ فإذا قرأت مثلاً ترجمة إبراهيم بن أحمد التنوخي في مشيخة الحافظ ابن حجر العسقلاني أُصِبْتَ بالذهول من كثرة ما قرأه على شيخه التنوخي من الكتب؛ فالإجازة الواقعية لا تكون إلا بمثل ما رواه ابن حجر عن شيخه؛ ولإعطاء صورة مُصغَّرة عن تراثنا المفقود أذكر نموذجاً واحداً هو الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى، وهو أوَّل مَن صَنَّف الكتب وبوَّبها في الكوفة؛ وذلك من تأليفه هو، ودَوَّن الطروس من قراءاته ومَرْويَّاته، ولم يصل إلينا من كتبه إلا أجزاء صغيرة أكثرها لا يزال مخطوطاً، ومما لم يصل إلينا كتاب (الجامع الكبير في الفقه والاختلاف)؛ فهو أوَّلُ ما أُلِّف في الإسلام من الموسوعات قبل الشافعي وداوود بن علي، وهو أوَّل ما أُلِّف في الأسانيد والأبواب المعلَّلة مع استيعابه كلام الفقهاء، وقد وَصَل الأسانيد وتحرَّى صِحَّتَها؛ ولسعته وشموله ضرب ابن الحاج المَثَل به في كثرة همومه وتراكم بؤسه في حَظِّه المكدود؛ فقال:

فَقْرٌ وذلٌّ وخمولٌ معاً

أحسنت يا جامعَ سفيان

وكثيراً ما يدفن كتبه إذا طلبه السلطانُ وخاف على نفسه، ومرة خبَّأها في طيَّات بئر هباءة، وقُبيل وفاته أوصى عمار بن سيف بمحو كتبه وإحراقها؛ لأنه ندم على كتابته نصوصاً عن الضعفاء.. ولكنَّ قضاء الله الكوني قدَّر أن ينتشر منها ما ألَّفه وحقَّقه، ولعل أكثر ما فُقِد منها ما مُحي وحُرِّق من مجاميعه التي دوَّنها ولم يُخْضعها بعدُ للتأليف من قِبله.. وَحُظي بجامع سفيان أهل الأندلس والمغرب، وكان من أعزِّ وأوْعَبِ مصادرهم.. واليوم أصبحت هذه الموسوعة والمجاميع التي جمعها ولم يُخْضِعْها للتأليف في طيِّ العدم تتحسَّس وميضاً من فوائدها في مؤلفات العلماء بعده.. وإحراق الكتب ومحوها اللذان هما أعظم آفة في ضياع تراثنا يأتيان بأسباب أخرى دنيئة لا تَوَرُّعاً كما مرَّ من فعل سفيان الثوري؛ وذلك بأن يرى المؤلِّف أنه مهضوم لم ينتفع بكتبه في دنياه بثراء أو تبجيل؛ فيحرقها، ويقول: (لم أنتفع بها حيَّاً؛ فلا أريد أن ينتفع بها الناس بعدي)!!.. هذا شيء رُوِي عن أبي حيان التوحيدي، ولعل هذا التعليل باطل، فكتب أبي حيان التي يعتز بها موجودة بين أيدينا، وليس فيها من الاستدراك ما يُبَرْهِن على أنه ثالث ثلاثة من الزنادقة في تاريخ المسلمين!!.. فإن صح أنه تورَّط في مسائل الإلحاد، وصح أنه أحرق شيئاً من كتبه: فذلك محمول على التوبة والندم.. وهناك ملاحدة أُتْلِفَتْ كُتبهم أو أتلفوها هم لما شعروا أنهم مطالبون مُهدَّدون كابن الراوندي، وكل هذا مجرد احتمال استئناساً ببعض الوقائع، ولستُ متفرَِّغاً لذلك.. ولكنني من خلال ترجمتي المستوعِبة لأبي مروان عبدالملك بن حبيب الأندلسي بكتابي (أنابيش تراثية)، ومن خلال اطِّلاعي على التعصب المذهبي في الأندلس والمغرب ابتداءً بتعصب المقلدة ضد ما خالف مذهب إمامهم وانتهاءً بتعصب أهل الحديث ضد كتب الفروع: رأيت أخباراً كثيرة عن إتلاف الكتب، وأخباراً كثيرة عن ضحايا الأفكار ممن طُورد وشُرِّد، وممن قُتِل بأحكام قضائية، وليس ذلك كالقضاء بقتل الحلاج فهذا شرع الله العادل، ولكن المؤلم العقوبات القاسية تعصباً للمذهب من غير نور ولا برهان، وقد ذكرت قصة فتى توقف الفقهاء في قتله سوى عبدالملك بن حبيب (وهو أثير عند السلطان)؛ فأمضى قتله وصلبه والفتى يقول: (اتَّق الله في دمي أبا مروان؛ فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).. فقال عبدالملك: (آلآن وقد عصيت قبلُ).. ثم بلي ابن حبيب بمدة قصيرةشبهة مماثلة أُقيمت على أخيه هارون؛ فوقف لمصلحة أخيه موقفاً معاكساً، وآثر السلطان فتواه على فتوى الفقهاء، ولو أبعده السلطان عن الشورى؛ من أجل تُهمة القرابة: لكان ذلك خيراً وأزكى.. وهذا الإمام الشافعي المتفرِّد بتدوين مذهبه بين الأئمة الأربعة المتبوعين، ومع هذا ضاعت موسوعته عن المذهب القديم؛ فلا يوجد منها إلا إشارات في كتب الشافعية؛ فضاع ما ينيف على ثلاثين جزءاً، كان يرويها عن الشافعي الحسن بن محمد الصَّبَّاح الزعفراني رحمهما الله تعالى تعرف بالمذهب القديم، ويعرف بالمبسوط، وعن سبب ضياعها قال أبو عمر ابن عبدالبر رحمه الله تعالى عن المذهب القديم بعد اعتماد المذهب الجديد: (ولا حاجة إلى تسمية الكتب التي رواها الزعفراني؛ لأنها قد قلَّت، واندرس أكثرها، وليس يُنسخ فيما بعد).

قال أبو عبدالرحمن: ختاماً لهذه الجولة أقول: أكثر إفادتي عن آثار الإمام سفيان الثوري من كتاب أفرده هاشم المشهداني لترجمته صدر عن دار الكتاب للطباعة عام 1401هـ، وهو تعليق على نسخة خطية ناقصة من تفسير سفيان نشرها الشيخ امتياز علي عرشي؛ فمثل كتاب المشهداني في تراجم العلماء هو الشُّموخ العلمي، وإن لم يكن فالاستراحة أولى!!.. وطبعة العرشي بتحقيقه سرقتها دار الكتب العلمية ببيروت كعادتها في سرق الكتب، وأظن أنها لا تخضع لحقوق المؤلف والناشر.. ومن مخازيها طبع كتاب بعنوان: (الفوائد) في مجلدين كما هو بِرُمَّته من نسخة سبط ابن حجر بخط تعليق رديء أدخل فيه تحشيات المتملكين وبعض النساخ السابقين، وليس هو الفوائد، وإنما الفوائد جُزَيء لابن منده، والباقي أكثر من أربعين رسالة من المؤلفات الحديثية للأئمة الأعلام، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

- عفا الله عنه -

عَوْدَةٌ إلى تراثنا المفقود
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة