Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSaturday 07/09/2013 Issue 14954 14954 السبت 01 ذو القعدة 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

متابعة

ورحل شيخ الثقافة في عالم المكفوفين

رجوع

فجع المكفوفون بالمملكة في وفاة رمز من رموزهم وعلم من أعلامهم، وفقدت الأوساط التربوية شيخاً جليلاً من شيوخها، وأستاذاً قديراً من أساتذتها، ومربياً فاضلاً من مربيها هو الشيخ محمد بن عبد الله بن إبراهيم العبد اللطيف الذي واجه أجله المحتوم - بشكل مفاجئ - صباح يوم الجمعة التاسع من شهر شوال لعام 1434هـ، بعد أن صام شهر رمضان المبارك قاضياً جزءاً منه في رحاب الحرم المكي الشريف، ومتبعاً إياه بست من شوال، وبعد أن توضأ لأداء صلاة الجمعة، وذلك عن عمر ناهز الخامسة والسبعين، حيث كان مولده - يرحمه الله - عام 1359هـ في مدينة أوشيقر بالوشم، وقد قضى فيها أيام طفولته الأولى، ودرس في كتاتيبها، وأكمل المرحلة الابتدائية بها، ثم انتقل إلى مدينة الرياض، حيث التحق بالمعهد العلمي، ثم واصل دراسته الجامعية في كلية الشريعة بالرياض حتى حصل على درجة البكالوريوس، وبعد ذلك ابتعث - وهو على رأس العمل - إلى جمهورية مصر العربية، حيث حصل على درجة دبلوم المكفوفين من المركز النموذجي لرعاية وتوجيه المكفوفين بالقاهرة، وقد بدأ أولى محطات عمله عندما عيِّن مديراً لمعهد النور بالأحساء، ثم انتقل إلى معهد النور بالرياض ليعمل به أستاذاً طيلة حياته العملية حتى تقاعد بقوة النظام.

ورغم أنه - يرحمه الله - لم يفقد بصره إلا في سن متأخرة، إذ فقده - بشكل تدريجي - بعد أن أكمل دراسته الجامعية، إلا أن ذلك لم يترك أية آثار سلبية على حياته، بل على العكس، فقد استطاع توظيف المفاهيم الأساسية التي اكتسبها وهو مبصر لصالح حياته وهو كفيف، وكان - يرحمه الله - ذا شخصية مؤثرة يتسم بالذكاء والفطنة، وقوة الإرادة والإسرار والعزيمة، وغيرها من الصفات الحميدة والمزايا السامية، وكان يمتلك قدرة عجيبة على التحدث والحوار والنقاش، يأسرك بأسلوبه، ويعجبك بأطروحاته، ويطربك بحسن اختيار عباراته حتى ولو خالفك في الرأي.

وقد عرفت الشيخ محمد بن عبد اللطيف وأنا طالب على مقاعد الدراسة في معهد النور بالرياض، حيث تتلمذت على يديه، كما تتلمذ كثيرون غيري، وكان معلماً موسوعياً، وأستاذاً مثقفاً، يمتلك القدرة على حفظ النصوص، والاستشهاد بها، وكان شغوفاً بالقراءة منذ نعومة أظفاره، بل إنه اشتغل بتجارة الكتب في مرحلة من مراحل حياته، وبعد تقاعده استمر - يرحمه الله - في مسيرة الاطلاع والتثقف من خلال القراءة والاستماع والاستمتاع بالاستزادة من فنون المعرفة في كافة المجالات، وكان - يرحمه الله - من القراء المتابعين لمجلة الفجر وغيرها من الكتب الدينية والثقافية التي تصدر عن مطابع خادم الحرمين الشريفين لطباعة القرآن الكريم بطريقة برايل، وكثيراً ما كان يتحف هيئة التحرير بأفكاره ومقترحاته وتصويباته للأخطاء النحوية والإملائية التي قد تقع في تلك الإصدارات. وقد تميز الشيخ محمد بن عبد اللطيف - يرحمه الله - في تدريسه بكونه لا يكتفي بما تحتويه المناهج الدراسية، بل يزيد عليها الكثير من علمه الوفير، كما كان يستخدم الحوار والنقاش أثناء تدريسه، مما جعل الطلاب يقبلون على دروسه بشغف ومتعة ورغبة، ويستفيدون من ثقافته الواسعة. وكان في حواراته ومناقشاته وأحاديثه يتسم بروح الدعابة، ومن ذلك أنه شارك في آخر فعالية نظمتها جمعية المكفوفين الخيرية بمنطقة الرياض كما دأب على ذلك - يرحمه الله -، وتحدث كثير منا في تلك الفعالية، وهو جالس يستمع، وبعد أيام التقينا به في خميسيتنا بمنزلي، وبعد أن جلسنا على مائدة الطعام خاطب أحد الزملاء مداعباً: «لقد كانت كلمتك في حفل الجمعية جميلة، لكنها كانت تعج بالأخطاء اللغوية والنحوية»، فأجابه الزميل: «إنك أنت أستاذي»، يريد أن يحمله مسؤولية عدم تعلم اللغة العربية بشكل صحيح، فرد - يرحمه الله - وهو يبتسم: «وما بال هذا الذي يجلس بجانبك الآن؟! ألم أدرسه كذلك؟!»، يشير إلى حقيقة وجود الفروق الفردية بين الطلاب. وكان آخر لقاء جمعنا به - يرحمه الله - في شهر رمضان الماضي بخميسيتنا، حيث جاء إلينا بصحبة أخيه الأستاذ عمر العبد اللطيف، وهو لا يقل عنه علماً وثقافة، بل إنه يقرظ الشعر ويحب معارضة الشعراء بأسلوب ساخر جميل، فأمتعا الحاضرين بأحاديثهما الشيقة، وحكاياتهما الممتعة، وداعباتهما اللطيفة.

ولا شك أن وفاة أستاذنا الغالي الحبيب الشيخ محمد بن عبد اللطيف تعد خسارة كبرى لنا في عالم المكفوفين، غير أن أكثر المتأثرين برحيله، وأكبر المتألمين لفقده هم زوجته وأولاده الأربعة وبناته الثلاث، إذ إنهم قد ودعوا أعز وأعظم وأعطف وألطف إنسان في حياتهم، وفي كل الأحوال فإنه لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقول ما يرضي ربنا: «إنا لله وإنا إليه راجعون، وأن ندعو الله - سبحانه وتعالى - أن يرحم أبا عبد الله رحمة واسعة، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجعل كل ما قدمه في موازين حسناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، إنه ولي ذلك والقادر عليه».

د. ناصر بن علي الموسى - عضو مجلس الشورى - رئيس مجلس إدارة جمعية المكفوفين الخيرية بمنطقة الرياض

رجوع

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة