Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSaturday 14/09/2013 Issue 14961 14961 السبت 08 ذو القعدة 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

منذ عقود - ولكن بعد تفهُّمي للحداثة الأدبية - أغلظتُ في نقد الحداثيين من شباب جيلي حتى كادت تنقطع الأواصر بيني وبينهم، وعَمَرَتْ الساحة بِعَرْكِ الأذن.. على أنني أَحْنَى على الحداثة منهم؛ وإنما كان نقدي فوْراتٍ من بيئتي الفكرية وإحساسي الجمالي؛ فمن جهة البنية الفكرية أبَيتُ أن تُسْترْحَل الحداثة لما يؤذينا،

وَأَلْحَحْتُ على حُسْنِ التصوُّر للحداثة مضموناً وشكلاً؛ حتى لا نقع في أسر التقليد للخواجات تقليداً أعمى، وقد فَررْنا من التقليد نفسه للتراث.. ومن الإحساس الجمالي كنت أميناً مع النظرية الجمالية بشرطِ الأهلية الثقافية التي يُنتج إحساسُها بالجمال (والتفريق بين ما هو جميل وقبيح وسامج بارد ليس هو الجمال ولا القبح) أَسْمى مظاهرِ التعبير الجميل بشرط الجلال.. وفي ذلك المُنْعَطَف بدَرَتْ مني كليمة جارحة هي (أغيلمة الصحافة)، ولعل عذري في ذلك أنها انتصاف مني لنفسي وقد وصفوني بكل كلمة من المعجم تدلُّ على التَّخثُّر.. والذين وصفتهم بالأغيلمة لم يخلعوا عنهم وصفهم بأنهم اليوم شَبُّوا عن الطوق فصاروا رجالاً؛ فهذه سنة الله في الحياة؛ وإنما خلعوا وصفي بأن أصبحوا كباراً في إبداعهم، فلو سلكتُ طريقَ زهير بن أبي سُلْمى في حولياته وتنقيحه بأن أُنتج قصيدة حداثية أتفرَّغ لها عاماً في التنقيح ما بلغتْ قصيدتي في مستواها الفني ما يبدعه أحدهم إلهاماً في أقلَّ من أسبوع، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء.. على أن الإبداع الإلهامي مَوْؤُود عندَ مَن شغله تنوُّع ثقافي، واسْتئسار لمن ابتلعه أكثر من تخصُّص.. والمبدعون من شبابنا الحداثي موهبةً قبل أن يشبُّوا عن الطوق مُضْطَرُّون إلى الإفادة من آدابٍ خواجيَّة من وراءَ وراءَ؛ لأن أعمارهم يومها لا تسمح لهم بتواصلٍ ثقافي علمي فكري، ولا بممارساتٍ تجريبية من مغامرات في الحياة؛ إذْ نصبوا أنفسهم للمحاماة عن الحداثة بمجملها باسم النقد المؤصَّل الذي عَبَّ ثقافة واستقلَّ فكراً؛ فهذا سِرُّ الانفصال قبل الاتصال مع شباب جيل الحداثة يومها.. وشبَّ عن الطوق - أو كَبِرَ عن الطوق في بعض كُتُب الأمثال - يضرب مثلاً لمن عَظُم قَدْرُه، وكان ما يلابِسُه دون قَدْرِه؛ لأن أصل المثل عن طوق من الذهب هو دون قدر لابسه، وأول من أطلقه جَذِيمة بن الأبْرش مَلِكُ الحِيرة، وانظر قصته في تاج العروس مادة (طوق).. ومن ذلك الهمِّ الذي أسلفته قريباً طالبت بمدرسة نقدية تُصاحب الإبداعَ الحداثيَّ المُستَجدَّ، وألمحتُ أن لا تكون مدرسة احتواء تقليدية سريعة، وكان مما قلته يومها: “فإن رطنتم بأسماء أعلام من قمم الأدب العالمي فعليكم أولاً أن تتوسلوا بالجامعات وأساتذة الكراسي؛ ليؤلفوا لكم بأسلوب تعليمي بحت دراساتٍ لنصوصٍ أجنبية؛ فليس في ساحتكم كتاب تعليمي ألبتة !!.. مع أن الكبار في مصر والعراق لم يأنفوا منالبدء بكتب تعليمية في الأدب الأجنبي، ولقد اقترحتُ على الدكتور الوديع محمد إبراهيم الشوش أن يعيد تأليف كتابه (شيئ من الشعر) بأسلوب تعليمي لعله يكون نواة لكتب تعليمية أخرى في مختلف الآداب الأجنبية؛ فما أحوجكم إلى هذا قبل أن تستعجلوا الريادة ولمَّا تطعنوا في العقد الثالث بعد”.. ثم قسوتُ؛ فقلت: “وإنني على ثقة إن شاء الله بأنكم إن ازددتم علماً فستزدادون تعقُّلاً وتواضعاً؛ فإن بقيتم على صلفكم فوافضيحتاه ممن سيؤرخ لأدبنا في العقد العاشر من القرن الرابع عشر والعقد الأول من القرن الخامس عشر”.

قال أبو عبدالرحمن: وإذْ اشترطتُ أن لا تكون المدرسة النقدية احتوائية: فإنني مُبيِّنٌ شرط وجودها المُعْتَدِّ به؛ وذلك من استقطار هُويَّة النقد من الميزات في اتجاه النُّقاد؛ فهنالك فئة النقاد الجماليين الذين توثَّبت أرواحهم مع شفافية الحرف العربي كالجاحظ والنهشلي وعبدالقاهر والحصري والقرطاجني.. إلخ؛ وإنما توثبت قلوبهم مع نبض الجمالية العربية في المأثور العربي.. ومنهم جار الله الزمخشري وأبو حيان النحوي والآلوسي الذين هوَّموا مع النكت البلاغية في كلام الله، والبلاغة من أهم مطالب الجمال من أجل الوصول إلى المدلول البلاغي في مُراد المتكلِّم؛ ولهذا كانت البلاغة هي النحو الثاني.. وآخر هؤلاء سيد قطب في كتابيه التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة مع خللٍ كبير في بعض الفهم للنص، وإيقاع سيد لذيذ أخَّاذ، وهو وأنور المِعَدَّاوي ودريني خشبة من مشرب جمالي واحد.. ويسمو على هذه المدرسة النفسية التي لا ذنب لها إلا تعقيدات العقاد مدرسة الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله، وقد رققته الجمالية الفرنسية بما يشبه الأزياء الباريسية.. وهناك فئة لم تتخذ مجرد الموسقة الحرفية وإن كانت قمة في ذلك شعاراً جمالياً، بل غنَّت غناء فكرياً مباركاً، وههنا ينبغي أن نُميِّز بين التفكير الجمالي والتعبير الجمالي، ولحسن الحظ لم يُغنِّ مثل هذا الغناء الفكري في تراثنا سوى قِلَّة منهم محمد بن داود الظاهري في كتابه (الزهرة)، وأبو محمد ابن حزم الظاهري في كتابه القمة (طوق الحمامة)، وكاد يضارعهم مُصْطَلِموا الصوفية من أمثال رابعة والحلاج وابن عربي وابن الفارض لولا الكفريات الصلع والادعاءات الباهتة؛ فهؤلاء من روَّاد الجمالية في تاريخنا التراثي.. وبهذه النظرة نستدرك قبح الادعاء في ثالوث الأدب الحديث وهو قبح لا أستثني من تخثُّره غير مُحْدثين جماليين وديعين من أمثال محيي الدين فارس وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، وهم في طريق الوصل والفصل من الأدب الرومانسي إلى الحداثة.. لقد ولد هذا الثالوث في مأساة من تاريخ الفكر العربي والجمالية العربية؛ إذ كان المسيطر على أعقاب النهضة العربية الحديثة ترميميَّة شوقي التي جاءت على أنقاض السلفية البارودية؛ فاحتضن الريادة أناس أقحموا قيمة الوعي في قيمة الجمال من أمثال مدرسة العقاد النفسية، ولولا تجليات لشكري لتباعدت عن هذه المدرسة، ثم تلتها مدرسة رهبانية هي مدرسة الصوفية المهجرية،قد تربَّى على فتاتها أساتذة لي سعوديون، ومن زعمائهم إيليا أبو ماضي وكان سروقاً عجيباً اكتشفه روكس بن زايد العزيزي، ولكن لهذه المدرسة عجائب لن تفنى جدتها.. ولم يخلفهم أزكى ولا أصدق من المدرسة الرومانسية، وهي بحق غناء فكري تعبيري سرح ومرح في أفيائه من أمثال إبراهيم ناجي والديب والمهندس وخليل شيبوب.. ثم وجدت مدرسة ثالوث الحداثة؛ فكانت من لدن نازك الملائكة وأحمد حجازي مقبولة ومُرقِّصة، ثم تحوَّلت إلى قبح يُغْثي النفوس ويؤذي العقول في افتراءات أدونيس والخال، وسيظل أستاذنا الدكتور سهيل إدريس مسؤولاً أمام الله عن قبائح هذه المدرسة منذ فتح لهم صدره عن حسن نية بعد المجلات العميلة كحوار ومواقف وشعر التي تهاوت عُروشها، ولم يكن هذا القبح غلطة فكرية ولا تجربة صادقة فاشلة؛ ولكنه خطة مِلِّية، ونحليَّة، وشعوبيَّة، طائفية محكمة.

قال أبو عبدالرحمن: وأما الفكر الجمالي بعد الإحساس بالجمال وِجْداناً، فلا تَتَّسع له هذه العجالة، ولكنَّ زبدته أن تكون النفس التي أحسَّتْ بالجمال من الجميل الخارجي مُقَيَّدة بأن تكون على الجلال بقيمتي الحق والخير؛ وذلك بالغيرة على الإرث المعصوم، وعلى ما هو كياني كاللغة والتاريخ والهُوِيَّة العربية بشرطها.. والمفكر المسلم الشفاف بقيمة الجمال وبشرط الجلال يقبح في ذوقه ووجدانه قُبحاً قاتلاً أن يَشُمَّ العَفَنَ في إناء من الذهب، وطلبه فِكْرَ الإحساس الجمالي إنما هو من أجل إمداد المِيزة من تراثه لا هدمه.. ومن الجلال أن يكون ذا أَنَفَةٍ وإباء من كل حاقدٍ مُسْترحلٍ أشكالَ الجمال؛ ليسرق هُوِيَّتَه، ويُمَوْضِعه، بل قد يسخر به صراحة ولا يعي الحاوي بذلك، بل يُفَسِّره بأنه تجديد في الأسلوب.. وهذا الشنآن بدأ على استحياء في شعر أدونيس، ثم بعد نكسة حزيران كشف عن سوءته شماتةً وتَشفِّياً ووعيداً، وطائفته هي التي حصدت وتحصد الشعب السوري العربي المسلم وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

اعتذاري مِنَ الذين شَبُّوا عن الطوق
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة