Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناTuesday 17/09/2013 Issue 14964 14964 الثلاثاء 11 ذو القعدة 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

كالعادة نخرج لنتسوق لأن التسوق يعد أحد المجالات الرئيسة المتاحة للترفية في مدننا أو ربما يكون وسيلة الترفية الوحيدة في مدننا التي تعج بالمولات، والهايبر ماركتات في كل مكان، حيث سهلت وسائل التكييف الحديثة بناء هذه الأماكن المغلقة الضخمة في كل ركن من أركان أحيائنا السكنية،

بينما لا تجد سوقا واحدة مفتوحة إلا سوق خضار تعمه الفوضى وتنعدم فيه النظافة. وليس غريبا إذا ألا تجد في مراكز التسوق المتسوقين فقط بل تجد عوائل بأكملها تمارس التسوق والترفيه في آن واحد، الكبار يتبضعون والأطفال يلهون بعربيات التبضع، والألعاب الموجودة في قسم الألعاب. فالتسوق، نتيجة لغياب أماكن الترفية لم يعد واجبا منزليا بل عملا ترفيهيا أيضا. وقفت في الهايبر ماركت الضخم أما م قسم الفواكه أتأمل الرمان اليمني الذي يباع في هذه السوبر بقالة، ويذكرني برمان مسقط رأسي مدينة الطائف حيث كان السواح في الزمن الجميل، زمن القناعة والسياحة الداخلية، تفد من جميع أنحاء المملكة لتتمتع بطقسها الصيفي الرائع وفواكهها التي كان لا يوجد لها مثيل في أي مكان في العالم، قبل أن يتحول الماء في الطائف إلى ماء فجاج، ومزارعها إلى أثر بعد عين، وتتوقف الزراعة فيها. لكنها، ومن سخرية القدر، لا تزال تعيش على سمعتها القديمة حيث تباع الفواكه السورية والتركية وغيرها على أنها فواكه الطائف فيشتريها الزوار الذين لا عهد لهم بمواسم فواكه الطائف الحقيقية.

خسرنا الطائف كمصيف لا مثيل له نتيجة لسوء التخطيط، وخسرنا معها أحد أجمل المصائف في المنطقة. فقد هجر المزارعون مزراعهم وباعوها على شكل مخططات سكنية، فحلت المزارع الأسمنتية مكان مزارع الفواكه، وهجر المزارعون بساتينهم ليعملوا شريطية عقار أو مقاولين أو موظفين في المصالح الحكومية المختلفة. وتحولت جبالها إلى منح سكنية، ومخططات عقارية حرمت الناس من التنزه فيها، وأصبحت أماكن النزهة منتزهات بها مراجيح بدائية، ومطاعم تقدم كودود، ومكودنالد، وهرفي، وبيرجر كنج.

في الطائف، كسائر مدننا، منحنا تصاريح بناء في مخططات لم تكتمل ولم تكن بها المرافق الضرورية من مجار، أو حتى كهرباء، أو ماء فكانت الناس كما في المدن الأسمنتية العشوائية الأخرى تستبق المرافق بالبناء على أمل تصل هذه المرافق قبل نهاية مرحلة البناء، سباق محموم مع الزمن لتشويه الطبيعة. والبناء باستباق المرافق يكاد يكون خصوصية من خصوصياتنا المعمارية التي ننفرد بها. هكذا نحن دائما نسابق الزمن في ملء كل فراغاتنا الجميلة بالكتل الأسمنت البشعة التي تكون عادة أكبر مما نحتاج ولا تتواءم مع حاجاتنا تصميما أو حجما. والأسوأ من ذلك أنها غالبا ما تكون مكررة بشكل عشوائي، ومتدنية في مستوى تصاميمها، وتخلو من القيم الجمالية المعمارية الحقيقة.

وأتذكر أنني مررت على أحد مزارع الرمان التي كان والدي يشتري منها رمان خاص نقدمه لضيوفنا في الصيف، نفتخر به، و يبهرون به لأنهم يعتقدون أنه يزرع لنا بشكل خاص لأن صداقتنا مع العائلة التي تملك بستان الرمان فرضت عليهم أن يكرموننا عند الشراء منهم بأجود ما تجود به أشجار بستانيهم اليانعة، ونحن بدورنا نفاخر به ضيوفنا من المصطافين الذين لا يمكن أن يجدوه في السوق. كان موسم الصيف آنذاك مختلفا جدا وكنا ننتظره بفارغ الصبر، وكانت الطائف تعج بالمصطافين، وبموظفي الحكومة التي تنقل لها صيفا قبل اختراع المكيفات المركزية، وفريونات السبلت أدت إلى الانتقال لمدن أخرى حيث خلقت أجواء مكيفة بشكل مصطنع يتخيل فيها البراد الصناعي براداً طبيعياً، وحيث يضرب هواء الفريون الناس في مفاصلهم ويعجل بتلفها وتيبسها، فهجرنا ما هو صحي وطبيعي لما هو مضر وصناعي.

جميع دول العالم مرت وتمر بطفرات عمرانية، والطفرات العقارية والاقتصادية ليس ظاهرة محصورة بنا، أوربا مرت بها بعد الحرب الكونية الأولى، و أمريكا مرت بها بُعيد الحرب الثانية، لكنهم لم يفرطوا بما يملكون من تراث معماري ومن مدن جميلة ومنتزهات، بل حافظوا عليها ليرتادوها عندما يحتاجون للراحة النفسية، وعندما يرغبون في الهروب من عالم الحداثة الصناعية الموحش إلى عوالم سحر الجمال والبساطة. مبانيهم الحديثة تبني بقدر حاجتهم، وبتخطيط يحافظ على تراثهم الحضاري، وعلى أساس علمي صحي، لا بشكل عشوائي متنافر ينعكس على النفس بالاكتئاب والملل. فنحن من نسكن ما نبني وليس غيرنا، وتغير نمط معيشتنا بشكل سريع قطع صلتنا بماضينا وتطور ثقافتنا وزاد من إحساسنا بالاغتراب، اغتراب تسلل تدريجيا لنا ونحن نسكن في أحياء عشوائية تصاميمها خليط من التقليد الفاشل لكل ما هو وافد، تتنافر فيها مفردات أنماط العمارة الرومانية، والإسلامية، والإيطالية، والأسبانية، والمكسيكية، والهندية وغيرها بشكل اعتباطي. فمصممونا المعماريون، مثلهم مثل خياطين فساتين نسائنا، يصممون لنا من صور وكتلوجات مشاريع أجنبية، ومن صور مبان صممت لبيئات غريبة عنا، وأجساد يختلف تكوينها عن تكوين أجساد نسائنا. ولذلك تشابهت عمارتنا مع شكل الفساتين المنمقة بتكلف التي تشاهدها في الأعراس. أحياؤنا تشبه حفلات الأعراس حيث يعمي بريق الزخرفة والمكياج عيوب التشوه الشكلي و البدني.

كانت بيوت الطائف بيضاء صغيرة تتناغم بشكل جميل مع طبيعته الصخرية المائلة للسواد، وكان البياض هو سمتها الغلبة التي منحتها شخصية خاصة بها، مثلما كانت بيوت مرتفعات الجنوب صخرية بنية تتمازج مع محيطها الأخضر، ومثلما كانت بيوت نجد الطينية ذات اللون الرملي تمتزج مع محيطها الصحراوي. فألوان المباني في ثقافتنا لم يكن وليد الصدفة، ولا السذاجة، إنما دفع له حس معماري وجمالي فطري بسيط غاية التعقيد في بساطته. كان المواطن يغادر مدينته لمدينة أخرى يتغير فيها كل شيء في محيطه فتتجدد نفسه، وتنبسط سريرته، أما اليوم فأنت لا تجد فرقاً بين طريف وأبها، أو بين حي من أحياء الرياض والهدى في الطائف، غابات إسمنتية عشوائية.

ومما زاد الطين بِلة، والعشوائية بشاعة، نظم البناء التي فرضتها البلديات مع ولادة الصناديق العقارية التي لم تعر التراث العمراني أو التناسق المعماري أي بال وكان تركيزها على فرض الارتدادات والتأكد من وجود بيارات بالحجم المناسب لعدم تسرب المجاري للشوارع لأنها كانت تعرف أن المجاري ستصل للأحياء في خطط خمسية متباعدة تعتمد على فوائض الميزانية، وتستغرق عقود. وربما كان هدف هذه الارتدادات إخفاء ما بداخلها من عشوائية في التصميم وتنافر في البناء. واجهات المباني يصرف عليها حصة الأسد من تكاليف البناء ومع ذلك يتم إخفاؤها خلف أسوار متشابكة متنافرة جعلت من محيطها الخارجي أشبه بمحيط السجون أو الثكنات العسكرية. الدول الأخرى تفرض نظم بناء على الصامت أو بحدائق أمامية تنعكس جمالاً على الفضاء العام الذي يعد ملكا للجميع، ونظمنا المعمارية تفرض إغلاق الواجهات داخل الأسوار، ولذلك لا غرو أن نشد الرحال من مدننا لمدنهم لنرفه ونروح عن نفوسنا التي أتعسها نمط معمار شوارعنا. اليوم، وفي وعي متأخر عفوي بما فقدناه من أنفسنا، نختار في معظم منازلنا الحديثة المكلفة ركنا صغيرا نقيم فيه غرفة تراثية اعتقادنا منا أنها تذكرنا بتراثنا ومن نحن، ولكنها في الحقيقة لا تذكرنا بسوى غربتنا عن أنفسنا، وتذكرنا بما فقدناه من هويتنا وانحفر في جيناتنا جراء تفاعلنا لقرون طويل مع بيئتنا فتناقض مع سلوكنا. ولكن هذه الغرف كرمان الطائف الجديد الذي سقي بمياه ملوثة فجاءت بطعم غير مستساغ حتى ولو كانت مزركشة وباهظة الثمن. والله وحدة يعلم ما سنفعل بهذه الغابات الأسمنتية حين ينضب النفط، أو تقل مواردنا المائية من آبار جوفية ناضبة، ومشاريع تحلية مكلفة.

بجانبي عند الرمان وقفت سيدة سورية تشع وقارا ولطفا التفتت إلي وقالت أين نحن من رمان الطائف السابق؟ هذا الرمان يمني لا يعادل رمان الطائف، كنا ننتج رمانا كرمان الطائف في بلدتي في سوريا فدمرها الأسد وساواها بالأرض ثم دعانا للعودة لها بعد تنظيفها من الإرهاب، وهو في الواقع نظفها من بيوتنا التي هدمها بعد أن سكنتها أجيالنا لمئات السنين، رددت عليها قائلا إن البناء والهدم وجهان لعملة واحدة ورب بناء يهدم أكثر ما يبني. والله من وراء القصد.

latifmohammed@hotmail.com
Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

حديث الرمان
د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة