Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناFriday 27/09/2013 Issue 14974 14974 الجمعة 21 ذو القعدة 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

كانت ولادة القاضي إياس بن معاوية، بن قرة المزني ووفاته في العصر الأموي، الولادة حيث قيل عام 46هـ، أما الوفاة عام 122هـ، أحد أعاجيب الدهر في الفطنة والذكاء، وكان المثل يضرب بذكائه: يقول أبو تمام في قصيدة يمدح فيها المعتصم العباسي:

إقدام عمرو في سماحة حاتم

في حلم أحنف في ذكاء إياس

ويقال في المثل: أذكى من إياس بن معاوية، وقد ولاّه عمر بن عبد العزيز قضاء البصرة، يقول إياس: أرسل إليّ ابن هبيرة فأتيته، فساكتني فسكت، فلما أطلت، قال: هيه. قلت سل ما بدا لك، قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: أتعرف الفرائض؟ قلت: نعم قال: أتعرف من أيام العرب شيئاً؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العجم شيئا؟ قال: أنا بها أعرف. قال: إني أريد أن استعين بك على عملي. قلت إنّ فيّ خلالاً ثلاثاً لا أصلح معها للعمل. قال: ما هي؟ قلت: أنا ذميم كما ترى، وأنا حديد، وأنا عييّ. قال أما ذمامتك: فإني لا أريد أن أحاسن الناس بك، وأما العيّ فإنك تعرب عن نفسك، وأما الحدة فإن السوط يقوّمك. قم قد وليتك، قال: فولاني وأعطاني مائة درهم فهي أول مال تملكته.

قال: الجاحظ: إياس من مفاخر مُضر، ومن مقدّمي القضاة، كان صادق الحدس نقّاباً: عجيب الفراسة ملهماً عند الخلفاء قيل: أنت سريع الإجابة، فرفع أصابعه الخمسة وقال للسائل: كم هذه؟. قال: خمسة أصابع قال: لماذا أسرعت في الجواب؟ قال: لأنها معروفة لديّ!، قال: وأنا الجواب معروف لديّ.

يقول الزركلي: قيل لإياس: ما فيك عيب إلاّ أنك معجب، قال: أيعجبكم ما أقول؟ قالوا: نعم قال فأنا أحق أن أعجب به، ولما دخل واسط قال لأهلها بعد أيام: يوم دخلت بلدكم عرفت خياركم من شراركم. قالوا: كيف؟ قال: معنا قوم خيار ألِفوا منكم قوماً، وقوم أشرار ألفوا قوماً، فعلمت أن خياركم من ألفه خيارنا، وكذلك شراركم.

قال ابن خلكان في قصة توليه عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته، إلى نائبه، بالعراق وهو عدي بن أرطاة: أنْ أجمع بين إياس بن معاوية، والقاسم بن ربيعة المحرشي فولّ قضاء البصرة أنفذهما فجمع بينهما. فقال له إياس: أيها الأمير سل عني وعن القاسم فقيهيْ البصرة: الحسن البصري ومحمد بن سيرين، وكان القاسم يأتيهما، وإياس لا يأتيهما، فلم القاسم أنه إن سأله أشارا به، فقال له لا تسأل عني ولا عنه فوالله الذي لا إله إلا هو، أن إياس أفقه مني، وأعلم بالقضاء، فإن كنتُ كاذباً فما يحل لك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنتُ صادقاً فينبغي لك أن تقبل قولي. فقال له إياس إنك جئت برجل أوقفته على شفير جهنم، فنجّى نفسه بيمين كاذبة يستغفر الله منها، وينجو مما يخاف، فقال عدي بن أرطاة: أما إذا فهمتا فأنت لها واستقضاه.

وكان ذكياً سريع البديهة، قوي الحجة فقد سمع يهودياً يقول: ما أحمق المسلمين، يزعمون أن أهل الجنة يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون فقال له إياس: أفكل ما تأكله تحدثه؟ قال: لا. لأن الله تعالى يجعله غذاء، قال إياس فلمَ تذكر أن الله يجعل كل ما يأكله أهل الجنة؟ وغذاء أهل الجنة يذهب جشاء كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان يستعجل ذكاءه في الأحكام الشرعية، التي تمر عليه في القضاء وله في السياسة الشرعية والفراسة وقائع عجيبة، قال ابن خلكان: قال حبيب: سمعت إياساً يقول: ما كلمت أحداً من أصحاب الأهواء، بعقلي كله، إلا القدرية فإني قلت لهم: ما الظلم بينكم؟ قالوا أن يأخذ الإنسان ما ليس له، فقلت لهم: فإن الله عز وجل له كل شيء.

واستودع رجل رجلاً، من أمناء إياس مالاً، وخرج المستودع إلى مكة فلما رجع طلبه فجحده، وأتى أياساً فأخبره، فقال له إياس: أعَلمَ بك أحد أنك أتيتني؟ قال لا قال: فنازعته عند أحد،؟ قال لا لم يعلم بهذا أحد، قال: فانصرف واكتم أمرك، ثم عد إلى بعد يومين، فمضى الرجل فدعا إياس أمينه ذلك، وقال: لقد اجتمع عندنا مال كثير أريد أن أسلمه إليك أتحصين منزلك؟ قال: نعم. قال فأعدّ موضعاً للمال وقوماً يحملونه، فعاد الرجل إلى إياس، فقال له انطلق إلى الرجل فاطلب مالك، فإن أعطاك فذاك، وإن جحد فقل إنني أرفع الأمر إلى القاضي إياس، وشكوت له حالي، وأخبرته بأمري، فدفع إليه ماله، فرجع الرجل إلى إياس، فقال: قد أعطاني مالي، وجاء الأمين إلى إياس لوعده، فزبره وانتهره، وقال: لا تقربني يا خائن.

وفي مجلس القضاء استعمل إياس فطنته وفراسته في مثل هذه القضية التي ذكرها المدائني: فقد استولى رجل رجلاً مالاً، ثم طلبه فجحده فخاصمه إلى إياس، فقال الطالب: إني دفعت إليه المال قال ومن حضرك؟ قال دفعته إليه في مكان كذا وكذا، ولم يحضرنا أحد، قال إياس فأي شيء كان في ذلك الموضع، قال: شجرة. قال: فانطلق إلى ذلك الموضع، وانظر إلى الشجرة، فلعل الله تعالى يوضح لك هناك ما يبين به حقك، لعلك دفنت مالك عند الشجرة، ونسيت فتذكره إذا رأيت الشجرة، فمضى الرجل.

وقال إياس للمطلوب: اجلس حتى يرجع خصمك، فجلس وإياس يقضي بين الناس، وينظر إليه ساعة، ثم قال: يا هذا أترى صاحبك بلغ موضع الشجرة التي ذكر؟ قال: لا. قال: يا عدو الله إنك لخائن قال أقلني أقالك الله، فأمر من يحافظ عليه حتى جاء الرجل، فقال له إياس: قد أقرّ بحقك فخذه.

وكما يقال في المثل: إن الحديد بالحديد يفلق، فقد اعترف إياس بأنه قد غلبه من هو أفطن منه، وأسرع بديهة، فقد روي عن إياس أنه قال: ما غلبني أحد قط سوى رجل واحد، وذلك أني كنت في مجلس القضاء بالبصرة، فدخل عليّ رجل، شهد عندي أن البستان الفلاني - وقد ذكر حدوده - هو ملك لفلان، فقلت له كم عدد شجره؟ فسكت ثم قال: منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس؟ فقلت: منذ كذا، فقال: كم عدد خشب سقفه؟ فقلت له: الحق معك وأجزت شهادته.

وعند إياس طريقة ذكية وخفية في رد شهادة من لا يطمئن إليه، دون أن يثيره، أو يؤثر الأمر في نفسه، فقد ذكر ابن عبد ربه أن وكيع الأسود صاحب خراسان أقبل ليشهد عند إياس بشهادة، فاستقبله إياس بالترحاب والبشاشة، وقال مرحباً وأهلاً بأبي مطرف وأجلسه معه ثم قال له: ما جاء بك؟ قال: لأشهد لفلان. فقال مالك وللشهادة، إنما يشهد الموالى والتجار والسّوقة. قال: صدقت وانصرف من عنده، فقيل له: خدعك إياس، إنه لا يقبل شهادتك، قال لو علمت أنك لعلوته بالقضيب.

ولما كان الحسن أبى الحسن، لا يرى أن يرد شهادة رجل مسلم، إلا أن يجرّحه المشهود عليه، فأقبل رجل عليه، فقال: يا أبا سعيد رد شهادتي فقام معه الحسن إلى إياس، فقال: يا أبا وائلة، لمَ رددت شهادة هذا المسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا؟) فقال إياس: يا أبا سعيد إن الله يقول: ممن ترضون من الشهداء، وهذا لا يرضى.

رحم الله القاضي فقد كان مضرب المثل بالذكاء والفراسة، ففي العام الذي توفي فيه يقول: رأيت في المنام كأني وأبي على فرسين، فجريا معاً فلم أسبقه ولم يسبقني، وعاش أبي ستاً وسبعين سنة، وأنا فيها فلمّا كان آخر لياليه، قال: أتدرون في أي ليلة هذه؟

إنها ليلة استكمل فيها عمر أبي، ونام فأصبح ميّتاً، وحكاياته رحمه الله كثيرة وظريفة.

mshuwaier@hotmail.com

شخصيات ومواقف .. إياس بن معاوية
د.محمد بن سعد الشويعر

د.محمد  بن سعد الشويعر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة