Tuesday 01/10/2013 Issue 14978 الثلاثاء 25 ذو القعدة 1434 العدد
01-10-2013

بازار سوريا

يطرح هذا المقال محاولة لفهم ما يدور في منطقتنا اليوم من مناورات ومباحثات حول الوضع في سوريا، وفهم المفاوضات الأمريكية الإيرانية التي تدور خلف الكواليس بعد تخلي أمريكا عن قرارها بتوجيه ضربة للنظام. والإيرانيون هم من اخترع مفهوم البازار، ولديهم تاريخ عريق في المساومة والمناورة في البازارات...

...وتاريخهم السياسي الطويل سلسلة من التحالفات والمناورات والحروب مع الأمم والشعوب المجاورة لهم. والفرس أمة فريدة أثنياً ولغوياً، معزولة عن محيط الثقافات المجاورة لهم. فاللغة الفارسية لغة هند - أوربية، وبعضهم يعتقد أنه ينتمي للعنصر الآري الذي لا ارتباط له بمحيطه السامي، والهندي، والتركماني. وقد حكمت الجغرافيا أن يجاور الفرس العرب، وأن يتداخلوا معهم في أمور كثيرة، خلقت كثيراً من القواسم المشتركة. وتاريخياً، توغل الفرس في جزيرة العرب مرات قبل الإسلام، وغزاهم المسلمون وسيطروا عليهم قروناً بعده. وبعد دخول معظم الفرس في الإسلام أصبح شرق إيران العربي - لسوء الحظ - متنفسها التوسعي الوحيد. وقد استفادت الأمتان كثيراً من هذا الجوار عندما كانت العلاقات بينهما مبنية على مصالحهما المشتركة، وتضررا كثيراً عندما ساءت هذه العلاقات وتحولت علاقتهما إلى علاقات شعوبية وعنصرية، ينظر كل طرف منهما لمصلحته فقط، ويغلبها على مصالح جيرانه. والخلل الحديث في العلاقة بينهما أتت به الثورة الإيرانية في السبعينيات؛ إذ غلبت القومية الفارسية بغلاف المذهبية، وأخذت إيران تخطط لبسط نفوذها عبر الأقليات الطائفية في دول الجوار. والأخطر في هذه السياسة أن لها مرشداً روحياً رقيباً على استمرارها وعلى ألا تحيد أي حكومة إيرانية عنها. حلف إيران مع الأسد هو حلف الذئاب التي إن لم تجد ما تأكله أكلت بعضها، فالأسد بعد سقوط عدوه الشقيق حزب البعث العراقي توقع سقوط العراق في يد إيران. ورغم أن البعث السوري لديه معاهدات سرية مع إسرائيل، تنازل بموجبها عن الجولان، إلا أنه لم يكن يأمن إسرائيل بشكل كامل، وتحالف مع إيران من قبيل التحوط. وإيران تعرف أن الحكم في سوريا مكروه من شعبه، وهو ليس شيعياً مذهبياً، ولكنها كانت ترى فيه طريقاً لتمويل حزب الله على حدود إسرائيل على سبيل خلق نوع من الردع من هجمات قد تشنها الأخيرة عليها للحد من طموحها التوسعي. فقد أصبح واضحاً بعد سقوط العراق أنه لم يعد في المنطقة منافس توسعي لإسرائيل سوى إيران، رغم أن إسرائيل حليف غير معلن لإيران ضد العرب كأمة، والسنة كمذهب. فإسرائيل لا تريد لإيران امتلاك أسلحة نووية تساعدها على التمدد والمنافسة فقط، وهي تعلم أنها هي ليست المقصودة بهذا السلاح بل العرب أولاً وتركيا ثانياً. بعد ذلك نود أن نضيف أن السياسة ليست فن الممكن فقط، ولكنها فن دراسة الاحتمالات والاستعداد لأوئها حتى ولو كانت الظروف توحي بأحسنها، وهي أيضاً القدرة على المساومة والمناورة حتى في حال الهزيمة والتراجع. وإيران رمت بثقلها خلف النظام السوري الذي كان معزولاً داخلياً وخارجياً، ولم يكن يخطر ببالها أن هذا النظام سيترنح في يوم ما بسبب ثورة داخلية. والظروف اليوم تبرز مهارة إيران وقدرتها على المناورة، فهي من ناحية اختبرت مدى ولاء حزب الله بتدخله في سوريا بطلب منها، وكذلك قدرته على إرعاب الداخل اللبناني، كما أنها جربت أسلحتها كافة التي أنتجتها مؤخراً في سوريا، ولا يستبعد أن تكون بعض الأسلحة الكيماوية الإيرانية هي التي جربت في سوريا، وأن يكون في ذلك أيضًا رسالة لإسرائيل التي تعلم علم اليقين أن إيران مررت لحزب الله كميات كبيرة منها. إيران اليوم، وبعد الاستخدام الأخرق لجيش الأسد للأسلحة الكيماوية في الغوطة، التي ترجح بعض المخابرات الغربية أن الجيش ارتكب أخطاء في تقدير كمياتها، أدركت أن مد السياسة العالمي تحول بشكل كبير ضد الأسد، وأيقنت أيضاً أن الأسد زائل لا محالة، وكذلك حكم أقليته العلوي، فبدأت بالمساومة في المساهمة على إزالته، أو على الأقل قطع الدعم عنه، بالحصول على تنازلات فيما يتعلق ببرنامجها النووي، وتخفيف الحصار عليها بالدخول في مفاوضات مع أمريكا، وهي تدرك بالضبط ما تريده أمريكا في المنطقة. أمريكا بدورها - وهذا أمر ربما لم تقدره دول الخليج حق التقدير - كانت لها أيضاً بازارها ومصالحها الخاصة التي قد تتقاطع وإن لم تتطابق مع مصالح دول الخليج. وهناك أمرٌ يتغافل الساسة الخليجيون عنه أحياناً، وهو أن أمريكا ترى في دعمها لإسرائيل ودعمها للقدس عاصمة لها أمراً دينياً مقدساً، مثلما ننظر نحن للأقصى والقدس على أنها قضية مقدسة لنا؛ لذا فمصلحة إسرائيل تقدم على مصلحة أمريكا ذاتها أحياناً. وهي أبدت استعداداً للحرب ليس فقط للخلاص من الأسد بل للخلاص من أسلحة الدمار الشامل لديه التي تهدد إسرائيل فيما لو وقعت في أيدي خصوم حقيقيين لها، لا يحترمون اتفاقات الأسد معها. ولذا ففي البداية تقاربت أهدافها مع أهداف دول الخليج التي كان زوال الأسد هدفاً أولياً لها، وتهديد إسرائيل عاملاً ثانوياً تماماً؛ لذا فروسيا وإيران قدمتا لأمريكا ما تريد، ونجحتا في خلق تباعد كبير بين أولويات وأهداف الطرفين. أما في أمريكا ذاتها فقد يكون الدخول في حرب ثانية في الشرق الأوسط أمراً مدمراً سياسياً لأي حكومة تقوم به؛الأمريكيون يعتقدون أنهم يحاربون في مناطق بعيدة عنهم، وإلى جانب دول تختلف معهم أيديولوجياً. وصادف ذلك أن هناك حملة تشكيك كبيرة في دوافع حرب العراق، قادها بعض الديمقراطيين أنفسهم ضد الجمهوريين. والشعب يعتقد أن مبررات ضرب سوريا تقدم لهم بشكل مشابه، وإن اختلفت، بسبب ضعف الثقة في التبريرات الحكومية. ويعتقد قطاع كبير من الشعب الأمريكي أن حروبهم هي سبب أزماتهم الاقتصادية، وأنهم يحاربون من أجل أجانب قد ينقلبون في أسوأ الأحوال ضدهم. كما أن الحكومة الأمريكية تخشى أن تؤثر الحرب على حالة الانتعاش المترنحة التي يمر بها اقتصادها بعد عقدين من الركود، وهي إضافة لذلك لم تحصل على تأييد صريح وواضح من الكونجرس؛ ولذلك فتجريد الأسد من سلاحه الكيماوي يعد انتصاراً رمزياً كبيراً لها دون المخاطرة بالدخول في حرب في المنطقة. ومن هنا يمكن فهم حماسهم للتفاوض مع الروس والإيرانيين، وإعلان أوباما أن تجريد الأسد من أسلحته الكيماوية يعد انتصاراً “عالمياً” للولايات المتحدة.

بقيت علاقة الأمريكيين بدول الخليج، وخصوصا السعودية، الحليف التاريخي لأمريكا، الذي يعوض العالم دائماً عن أي نقص لإمدادات الطاقة، ويحافظ على سعر مقبول لها، فهي الدولة المعنية حقيقة بالتهديد الإيراني، وتضغط تجاه الخلاص من التغلغل الإيراني في الدول العربية وعلى رأسها سوريا، حتى ولو ترتب على ذلك ضرب إيران. فأمريكا هنا ستضغط باتجاه عقد مؤتمر دولي تساوم فيه إيران وروسيا على رحيل الأسد، الذي اتضح أنه راحل لا محالة، وهما يريدان قبض ثمن المشاركة في الإطاحة به، فسيتم تخفيف الحصار على إيران، وإشراكها في مؤتمر مستقبل سوريا، وغض النظر جزئياً عن برنامجها النووي مقابل التوقف عن دعم الأسد، مع عدم التدخل في علاقتها بحزب الله. أما روسيا فسيتم التعهد لها بحصة كبيرة في إعادة إعمار سوريا المدمرة، مع تخصيص معونات كبيرة لإعادة الإعمار. وتحصل دول الخليج على تعهدات أكبر بحماية أمنها من إيران مستقبلاً، لكن سيقلص دورها في تحديد مستقبل سوريا. وستكون هناك مؤتمرات تحاط بهالة إعلامية كبيرة تخرج الجميع على أنه منتصر، إلا أنه في حالة رفض وتلكؤ الأسد في الخلاص من سلاحه الكيماوي لإحساسه بأن رحيله هو البضاعة التي يتم المساومة عليها في البازار فسيشارك الجميع في ضربه.

بقي أن نذكر أن إيران راهنت على ما تريده أمريكا، ونحن راهنا على ما نريده من أمريكا. وقد يستجد أمر ما قبل نشر هذا المقال يغير في بعض معطياته.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

 
مقالات أخرى للكاتب