Sunday 03/11/2013 Issue 15011 الأحد 29 ذو الحجة 1434 العدد
03-11-2013

أبعاد قيادة المرأة للسيارة .. مناقشة هادئة!

أي حديث اجتماعي عن قيادة المرأة السعودية للسيارة، أو نقاش فكري بين المؤيدين والمعارضين حول مشروعية هذه القيادة، لابد أن يستدعي من الذاكرة البعيدة ذكرى (6 نوفمبر1990م)، ومن الذاكرة القريبة موعد (26 أكتوبر 2013م)، فتلك الذكرى تؤرخ لأول مظاهرة قامت بها مجموعة من النساء السعوديات للمطالبة - حسب تصريحهن وقتها - بالسماح الرسمي للمرأة بقيادة السيارة،

أما ذلك الموعد فيصادف اليوم الذي حُدد لقيادة المرأة للسيارة بشكل عملي في شوارع مدن المملكة إثر حملة أطلقها مجموعة من السعوديين والسعوديات في موقعي (تويتر)، و(الفيس بوك)، حددوا فيه هذا اليوم كإعلان عام، ما دفع وزارة الداخلية المنوط بها حفظ الأمن العام، وتطبيق الأنظمة المرورية إلى أن تصدر بياناً رسمياً تقطع فيه الطريق على من قد يفكر أو يخطط لاستغلال هذا اليوم لإثارة البلبلة، وزعزعة الأمن، ومعارضة النظام العام، والتقليل من هيبة الدولة.

بين السادس من نوفمبر، والسادس والعشرين من أكتوبر على امتداد 23 عاماً، شهد المجتمع السعودي تحولات حضارية ملموسة على المستوى السياسي، والواقع الاجتماعي، والوضع الاقتصادي، بحكم الانفتاح المتبادل بين هذا المجتمع المحافظ والعالم المتطور بأدوات الإعلام الفضائي المباشر والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب وسائط التقنية الحديثة، كل ذلك كان كفيلاً بأن تبقى قضية قيادة المرأة للسيارة حاضرة في الحراك الاجتماعي السعودي، خاصةً في ظل صراع فكري مستمر بين التيارين الديني والليبرالي - إن صح التعبير- حول هذه القضية تحديداً، حتى أطلق عليها أحد الكتاب الليبراليين وصف (أم القضايا)، لكون القضايا الاجتماعية الأخرى لم تأخذ مدىً زمنياً كما أخذت قضية قيادة المرأة للسيارة، ولم تصل في مستوى نقاشها لهيب النقاش، الذي أشعلته هذه القضية، لدرجة أن الإعلام الغربي تناولها أكثر من مرة، فضلاً عن شخصيات عالمية أعلنت تأييدها لهذه القضية. من هنا فإن التطرق لها يستلزم وجوباً مناقشتها من شتى أبعادها بعيداً عن التكرار الذي قد يجلب الملل، وعدم إغفال أية حقائق خاصة بها، بحيث تكون المناقشة بشكل هادئ ورؤية متزنة وموقف حيادي، والسعي المخلص إلى عرض أفكار جديدة للقضية لعلها تسُهم في وصول المؤيدين والمعارضين لقيادة المرأة للسيارة إلى نقاط اتفاق بدل استمرار الاحتقان الفكري القائم بسببها. والأبعاد التي أعنيها للمناقشة هي كالتالي:

أولاً.. البعد الفكري

يخلط كثير من الحقوقيين والناشطين الاجتماعيين والليبراليين بين (الحقوق الشرعية)، و(الحاجات الإنسانية) و(المتطلبات الاجتماعية)، فيتم التعامل مع (حاجة إنسانية)، أو (مطلب اجتماعي)، سواءً للمرأة أو الرجل على أنه (حق شرعي)، فينشأ الخلاف بين التيارات الفكرية على أساس مغلوط في طبيعة القضية، لأن الأصل في (الحقوق الشرعية)، أنه لا يجوز التعدي عليها أو حرمان أحد منها، فيأتي السؤال هنا: ما طبيعة قيادة المرأة للسيارة؟، هل هي حق شرعي أم حاجة إنسانية أم متطلب اجتماعي؟، بتقديري أنها لا تخرج عن كونها حاجة إنسانية أو متطلب اجتماعي، لأن التأكيد بأنها حق شرعي يعني - بطريقة غير مباشرة - اتهام الدولة بحرمان المرأة حقا من حقوقها الشرعية منذ وصول السيارة إلى المملكة. وهذا بالطبع غير صحيح لأن الدولة حفظت للمواطن (رجلا أو امرأة) حقوقه التي هي رئيسة في حياته وقررتها الشريعة، وهي (الكرامة، والحياة، والحرية، والصحة، والأمن، والتعليم، والعدالة، والملكية).

ثانياً.. البعد الرسمي

أية قضية اجتماعية أو مسألة حضارية لابد أن تكون تحت مظلة الدولة، فهذه أبسط شروط المواطنة الصحيحة، التي تدخل في إطار البيعة المعقودة لولي الأمر، فكون الموقف الرسمي لم يسمح بهذه القيادة فعلى المؤيدين لقيادة المرأة للسيارة الرضوخ لهذا الموقف الذي عبّر عنه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية الأسبق -يرحمه الله- عندما قال: (موضوع قيادة المرأة للسيارة في السعودية شأن عام، ومن المؤسف أن هذا الأمر أصبح قضية لا تستحق، واستغربت من طرح هذا الموضوع، وأن من طرح الموضوع لا أعرف لماذا طرحه، وهل يدرك الأوليات أم لا..)، في ذات السياق.. أكد صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبد العزيز وزير الداخلية السابق على عدم السماح بهذه القيادة بقوله: (قيادة المرأة للسيارة في المملكة سبق أن صدر بشأنها بيان للعموم سنة 1411هـ/ 1990م، بعدم السماح للمرأة بقيادة السيارة.. هذا بالنسبة لنا كوزارة داخلية لا يزال قائماً، ونحن مهمتنا تطبيق النظام، والأمر النافذ يبقى العمل به). وعليه فالموقف الرسمي من قيادة المرأة للسيارة حتى الآن يبدو واضحاً جداً ومحدداً بـ(عدم السماح) للمرأة بهذه القيادة، سواءً كانت سعودية أو غير سعودية، غير أن محاولة بعضهم بتفسير بيان وزارة الداخلية بما يتفق مع وجهة نظره، أو الخروج على هذا الموقف بتصوير وترويج مقاطع لسيدات يقدن سياراتهن في بعض المدن، وبثها في مواقع (الإنترنت) كنوع من الدعاية، أو محاولة فرض أمر واقع، لا يعني السماح بذلك مالم يصدر بيان رسمي، فنحن تحت مظلة دولة لها قوانينها وأنظمتها وأولوياتها، خاصةً أن هناك خلافاً اجتماعياً حاداً حولها، ما قد يترتب عليه محاولة مندس أو حاقد على استغلال هذا الخلاف في إثارة البلبلة وزعزعة الأمن الداخلي. لهذا فالمسألة ليست في امرأة تحسن القيادة، أو امرأة تفضل القيادة بنفسها على سائق تشاركه مقصورة السيارة، إنما في موافقة رسمية معلنة وقبول اجتماعي عام، لأن الأمر بعد ذلك يتحول إلى عمل تنظيمات جديدة، وتجهيزات خاصة لها علاقة مباشرة بكيفية التعامل مع المرأة، التي تقود السيارة في حال الحوادث، والمخالفات، ونقاط التفتيش، والتوقيف، والقضايا الجنائية.

ثالثاً: البعد الديني

الرأي الشرعي الذي عبرّت عنه المؤسسة الدينية، أو المشايخ والدعاة الفضلاء، وطلبة العلم الشرعي بخصوص قيادة المرأة للسيارة ليس تخرصاً فكرياً، أو اتخاذ موقف ديني متطرف كما يتوهم بعضهم، أو رأي مؤدلج من تأثيرات (الصحوة)، أو فتوى شاذة لقهر المرأة كما انحدر بذلك تفكير بعض الخائضين في هذه القضية الساخنة، إنما هو من تطبيق عملي للأمانة الدينية العلمية، واتفاق مع دستور هذه البلاد، بأن يبينوا الحكم الشرعي في ضوء ما يعلمون من نصوص دينية، وأحكام فقهية وإسقاطها على أرض الواقع السعودي، وعندما نقول السعودي، فلأن كل مجتمع له بعض الخصوصيات والظروف المختلفة عن كثير من المجتمعات، لهذا تجد أن الموقف الديني من هذه القضية وإن كان متبايناً في حكمه الشرعي (الاجتهادي) بين من يرى التحريم أو عدم الجواز من منطلق ما أفضى إلى محرم فهو محرم، أو يقول بالإباحة المشروطة، إلا أنه كان واضحاً في مبرراته الشرعية، أو على الأقل أن منع القيادة وإن لم يكن محرماً فهو يندرج تحت حكم (تقييد المباح) الخاص بولي الأمر كمسألة زواج القاصرات على سبيل المثال، كما أن مبرر عدم الجواز في قيادة المرأة للسيارة بالنسبة للمدرسة الفقهية السعودية يعود في أساسه إلى موقف هذه المدرسة من كيفية الحجاب الشرعي، التي تراها في التغطية الكامل للوجه، ما يعني تحريم الكشف، وإن وجدت آراء فقهية أخرى ومعتبرة على مستوى العالم الإسلامي ترى بجواز كشفه، لأن الحجاب (قطعي) من حيث الوجوب و(اجتهادي) من حيث الكيفية. فضلاً عن أن القائل بمنع قيادة المرأة للسيارة يستند إلى قاعدة فقهية بـ(درء المفاسد مقدم على جلب المنافع)، وبرأيه مفاسد هذه القيادة أكثر من مكاسبها.

رابعاً: البعد الاجتماعي

ُيخطئ من يعتقد أن قيادة المرأة للسيارة شأن خاص أو حرية شخصية، إنما هي (شأن عام) كما أشار إلى ذلك الأمير نايف بن عبد العزيز -يرحمه الله-، لأن السائق في واقع الحال يتشارك مع غيره في الشوارع والميادين، كما يخضع الجميع لقوانين وأنظمة واحدة، قد تصل ببعض إلى السجون، والمحاكمات بسبب قضايا أو حوادث ومخالفات مرورية، فما أن يخرج الشخص (رجلا أو امرأة) من بيته حتى تصبح حريته مرتبطة بغيره، وحركته مؤثرة في حياة الآخرين، لهذا فمقولة أن الاختيار هنا ينبغي أن يكون مفتوحاً للمرأة كما للرجل في أن تقود السيارة أو لا تقود، يجعلنا نتساءل عن قضايا اجتماعية أخرى قد تخضع لفكرة هذا الاختيار: لماذا لا تُصبح متاحة للجميع؟، بحيث ينتقي كل شخص ما يريد من حيث تطبيقه، ويترك ما لا يريد، وهذا قياس باطل، فهنا تقع الفوضى، لأن حرية الفرد تتداخل في طبيعتها مع المجموع العام، فحتى الدول الديمقراطية، التي يقال: إنها حققت الحرية الفردية وتكرسها بشكل قوي، لا تطبق قانونا، أو تسمح بإجراء عام، أو تقر أي مطلب يمس حياة الناس حتى تتم الموافقة عليه دستورياً، من خلال البرلمان الذي يمثل الشعب، بغض النظر عن نسبة الداعين له في الأوساط الاجتماعية.

خامساً:البعد التاريخي

المتمعن في وجهات نظر معارضي قيادة المرأة للسيارة أو المؤيدين لها، يجد أن كل فريق يستند على التاريخ الإسلامي في تعزيز صواب وجهة نظره، وبالذات تاريخ صدر الإسلام (العهدين النبوي والراشدي)، لكون الفترة التي تبلورت فيها كل التشريعات الخاصة بالرجل والمرأة، وارتباطها بمسألة الحلال والحرام، ولعل مسألة ركوب المرأة البعير أو قيادتها له هي محور الاستشهاد التاريخي، فالمؤيدون يرون أن ركوب المرأة للبعير دليل جواز على قيادتها للسيارة، مستندين على حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- للصحابي عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه عندما قال له في ما معناه: (فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله). ما يعني أن الظعينة (المرأة) كانت تركب البعير وتسير وحدها، بينما يرى المعارضون لقيادة المرأة للسيارة أنه لم يثبت في التاريخ أن المرأة كانت تركب البعير لوحدها وتسير لوحدها، لأن المعروف أنها كانت تُوضع في هودج، ويصحبها رجل يمسك خطام البعير أو رجال يحمونها، لذا يرون أن القياس بهذه المسألة غير سوي. لكن في المقابل يرى المؤيدون أن السيارة من المنتجات الحديثة، التي لم تكن في أزمنة سابقة، وهي بالتالي من القضايا الاجتهادية في الدين، التي تخضع لحال الناس وظروفهم، بل إن التعامل الإيجابي معها وغيرها من المنتجات العصرية يؤكد ميزة الإسلام أنه منهج حياة صالح لكل زمان ومكان، لكونه يستجيب لقضايا كل عصر. ولا تقف الفتوى الدينية عثرة في طريق حل هذه القضية بما يحقق مصلحة الناس.

سادساً: البعد الاقتصادي

رغم أن البعد الاقتصادي لهذه القضية مرتبط أساساً بالرأي الشرعي (الديني)، والقرار الرسمي (السياسي)، إلا أنه يكتسب أهمية رئيسة لدى فريقي المعارضين والمؤيدين على حد ٍسواء، فالمعارضون يرون أن قيادة المرأة للسيارة مشكلة اجتماعية مفتعلة، وقضية ليست أولوية بالنسبة لحركة الناس وتنقلاتهم، إنما الأولوية هي (للنقل العام) بكل وسائله كبقية دول العالم، خاصةً القطارات والحافلات لدرجة أن كثيراً من الرجال يستخدمون هذه الوسائل أكثر من سياراتهم، فضلاً عن أن قيادة المرأة للسيارة - كما يرى المعارضون - لن تقلل نسبة وجود السائقين الأجانب لدى الأسر السعودية قياساً بالدول الخليجية المجاورة، إنما ستزيد زحمة الحركة المرورية، ناهيك عن ارتفاع معدل الحوادث في ظل ضعف الثقافة المرورية، وعدم حزم المرور بتطبيق قوانين صارمة بالنسبة للقضايا الكبرى الرئيسة (السرعة الجنونية وقطع الإشارة وظاهرة التفحيط).

في المقابل يرى المؤيدون أن عدم وجود (نقل عام) هو إشكال تنموي ينبغي ألا يحرم المرأة من (حقها)، أو حاجتها لقيادة السيارة بنفسها، بل ينبغي أن تكون هناك خيارات أمام المرأة حسب ظروفها وقدرتها المالية (نقل عام أم تقود بنفسها أو تركب مع سائقها)، متسائلين: هل عدم وجود مستشفى يعني ألا نعالج أنفسنا؟، أو عدم وجود طريق مسفلت لقرية ما يعني حرمان أهلها أو زوارها من الذهاب إليها؟. كما يؤكد المؤيدون أن قيادة المرأة للسيارة تخفف أعباء مالية كثيرة لدى الأسر، وتقلل من نسبة العمالة في البلد، وتحمي مجتمعه من الثقافات الوافدة التي يأتي بها السائقون من بلدانهم.

بعد هذه المناقشة الهادئة والمقتضبة قياساً بحجم هذه القضية أخلص إلى أن قضية قيادة المرأة للسيارة، التي تبلغ من العمر قرابة العقدين وهي تطرح في الإعلام والإنترنت والمجالس الاجتماعية، هي بالأساس خاضعة لـ(قرار ولي الأمر) وفق اعتبارات دينية وسياسية واجتماعية، فهو من يحدد الوقت والطريقة وآلية التنفيذ. ومن يراجع كل تصريحات مسؤولي الدولة وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله- يجدها ترتكز على هذا المحور. وقس على ذلك قضايا تنموية واجتماعية كتوسعة المسعى، ودخول المرأة مجلس الشورى، وتأنيث العمل في محال مستلزمات المرأة وغيرها.

alkanaan555@gmail.com

تويتر @moh_alkanaan

مقالات أخرى للكاتب