Monday 11/11/2013 Issue 15019 الأثنين 07 محرم 1435 العدد
11-11-2013

البوسفور .. عبقرية الإنجاز والمكان

ما أشد حاجة الدول الإسلامية إلى الإنجازات والشخصيات الملهمة، هذه الدول التي لديها من الإمكانيات ما يغنيها لتورثه لأجيال بعد أجيال، من موارد وثروات طبيعية حباها الله تعالى بها. حقيقة، إن في التجربة التركية ما يلهم الدروس التنموية والاقتصادية البليغة بما لا يخفى على القراء الأكارم. إلى جانب التجربة الماليزية المبهرة بقيادة الطبيب مهاتير محمد، فضلاً عن النهضة الإندونيسية القادمة.

وأذكّر فيما سبق أن تناولته في مقالي السابق بالإمكانيات التي لدى حكومة المملكة، والتي ظهرت جلية في الحج، وبما أُنجز عمرانياً وصحياً وأمنياً؛ ما يعطي دلالات لا يرفضها إلا جاهل، بأن التميز ليس محرماً علينا.

يوم الثلاثاء الفائت كانت جوهرة الشرق (إسطنبول) على موعد مع التاريخ حين تم ربط قارتَيْ أوروبا وآسيا بنفق تحت مضيق البوسفور، بطول 1.4 كم، واقعاً تحت الماء بعمق 56 متراً، وطول النفق الكلي 13.6 كم انطلاقاً من الجزء الأوروبي من إسطنبول حتى جزئها الآسيوي. وبالطبع يتوسط النفق سكة للقطار لنقل الركاب وفك الزحام عن جسر إسطنبول الشهير وتنشيط الحركة البشرية، ومن ثم الاقتصادية والاجتماعية والسياحية، بين شطري المدينة وتركيا نفسها، بل بين القارتين.

(مشروع الأجداد، ولكن الله أكرمنا بأن يتم في زماننا وبأيدينا)، هذا ما قاله رئيس الوزراء الفذ أردوغان حين افتتاح النفق وتدشين القطار؛ لأن الحلم بنفق هكذا بدأ في عام 1860 زمن السلطان العثماني عبد المجيد، لكن حال دون تنفيذه ضعف الإمكانيات الفنية والهندسية آنذاك. علماً بأن فكرته كانت بمد أنبوب فوق الماء، يربط شطري المدينة.

عظمة هذا الإنجاز كذلك تأتي بمد سكة موازية في هذا النفق لقطار لندن - بكين! مروراً بدول أوروبية وآسيوية عدة، في ربط اقتصادي تنموي وحضاري مشكلاً (طريق حرير) عصرياً، له دلالاته الحضارية والاقتصادية والسياسية.

قلتُ الحضارية لأكثر من وجه؛ إذ إضافة لما جاء في هذا المشروع العملاق، اعترض العمل عقبات أو قُلْ تحديات، هي في حقيقتها فرص، بما أن الطاقات تخرج وقت التحديات. فحين تم الشروع في تنفيذ الأساسات في قاع المضيق تعثرت الآليات في ذخائر تاريخية وسفن وقطع ضاربة في القدم بين بيزنطية وآسيوية، وغيرها مما مر بهذا المعبر التاريخي، فكان أن خصص لهذه الكنوز الأثرية متحف خاص. انظر إلى استثمار الفرص اقتصادياً وثقافياً وسياحياً! فكان هذا المشروع كله أيقونة ومثالاً يُدرّس في التخطيط واستغلال الموارد البشرية والجغرافية والاقتصادية والفنية، بما يعود على تركيا بالقوة على قوتها، والرخاء على رخائها.

تضافر عمل شركات يابانية وألمانية، إضافة إلى تركية، لإتمام هذا المشروع حتى رأى النور، ينبه ويذكّر بأن الإنجاز والبناء لا يعيبه اشتراك الغير مع أصحاب الشأن؛ فدول مثل أمريكا قامت على أكتاف المهاجرين؛ فأنتجت أقوى اقتصاد في العالم. والادعاء بالكمال والقدرة على السواعد المحلية فقط مثالية فجة وجمود وفقر فكري. ولعلي أشير هنا إلى سوق المقاولات بالتحديد لدينا، الذي تئن فيه المشاريع متعثرة بالآلاف، باعتراف الجهات الحكومية، رغم إنفاق الدولة السخي على مختلف القطاعات؛ والسبب الرئيسي في ذلك ضَعف تأهيل شركات المقاولات المحلية في الغالب، واستبعاد الشركات الدولية المتخصصة والعريقة في مجالها.

كان من الطبيعي رؤية رئيس الوزراء الياباني برفقة الزعماء الأتراك في تدشين هذا المشروع، إلا أنني سررت أكثر لوجود الرئيس الصومالي حسن شيخ لأسباب عديدة، لعل أهمها كفاحه لانتشال هذا البلد الإسلامي المنهك بالحرب والفقر، وهو يملك موارد طبيعية هائلة تؤهله ليكون سلة خبز له ولجيرانه، ولعل حضوره هذا الحدث الاستثنائي يزيد من كفاحه وعزمه للنهوض بالصومال الجريح. ولا يخفى أثر اليد التركية التي امتدت لهذا البلد لانتشاله وإنمائه في تحدٍّ يثبت ما وصلت إليه تركيا من قوة سياسية واقتصادية. دمتم برعاية الله.

romanticmind@outlook.com

تويتر @romanticmind

مقالات أخرى للكاتب