Wednesday 13/11/2013 Issue 15021 الاربعاء 09 محرم 1435 العدد
د.فوزية أبو خالد

د.فوزية أبو خالد

لقطات من المحطة الثانية لرحلتي الدراسية بأمريكا:

13-11-2013

غليان المناخ الأمريكي لمرحلة السبعينات بالأسئلة

بقدر ولعي بعلم الاجتماع الذي كنت بارتحالي للدراسة في الخارج أروم من التخصص به محاولة فهم سؤال الاستقرار والتغير في المجتمع والبحث في أسباب الفقر والغنى والظلم والعدل والتمييز ضد المرأة والتفاوت الطبقي والتنابذات بين “القبيلي” وغير “القبيلي”، فقد كان ولعي أشد بالشعر فلم أترك قراءة شعرية ولا مقرر شعر إلا وحضرته تسجيلا أو حضورا.

كان لعلم الاجتماع وقتها كما للشعر مواقفا مشربة بالأسئلة ملغمة بالثورة. بعضها ولد مع بداية هبات الهيبيين ولم يخفت بعد احتوائها وتحولها من ظاهرة شبابية عامة وعارمة إلى ظاهرة تشكل مثارا للجدل وعلامات الاستفهام. وبعضها خرج من عوارض قاذفات القنابل الأمريكية على فيتنام. والكثير من تلك الأسئلة شب من بين تلك الوقائع الغامضة أو الفاضحة في التاريخ الأمريكي لثلث القرن العشرين الأخير من مقتل جون كيندي إلى فضيحة ووترجيت وما بينهما من توترات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وبين الاتحاد السوفيتي آنذاك. وكما كان لعلم الاجتماع مواقف متشابكة مع السخط الأمريكي الشعبي على تورط أمريكا في حرب فيتنام حتى بعد نهاية الحرب عام 73 فقد كان الشعر الأمريكي مشتعلا بالهاجس الاجتماعي وباليأس السياسي وبالقلق الوجودي. فعلى عكس كما يذكر جورج مووسون في مقارنته النقدية لعلاقة الشعر الأمريكي بالحروب، موقف الشعر الأمريكي الذي اتسم إما بالصمت أو الانسحاب السلبي من السياسة الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001م وولوغ أمريكا في حرب أفغانستان والعراق، فقد كان الشعر الأمريكي إبان الحرب الأمريكية على فيتنام مفتونا بإدانتها مهجوسا بإيقافها، مشغولا لأعلى الهامة وإلى أخمص القدمين بمساءلة عبثيتها وأثمانها الباهظة من أرواح الأبرياء. فيبحث مووسون في دراسته الجديدة التي بعنوان “الشعر الأمريكي إبان حرب فيتنام والآن” عن سر أسئلة الأمس وصمت اليوم من فعل الحرب الكارثي عبر مراجعة أعمال تلك القامات الشعرية التي سجلت موقفا إنسانيا وسياسيا وشعريا شجاعا من أجواء الحرب الباردة وحرب فيتنام، مثل سيلفيا بلاث في قصيدتها أبي، وروبرت بلاي في ديوانه الضوء حول الجسد وروبرت لويل في قصيدته الشهيرة اتحاد الموتى. ولقد لمست بحواسي الخمس وقتها وأنا طالبة جامعية صغيرة تلك القصائد والدواوين والمسرحيات والأعمالا السيسيولوجية والتربوية التي تملك الشجاعة للوقوف في وجه السائد وسياسات الهيمنة، كأعمال بول فيراري ورايت ميلز، دبليو إس ميروين، إنجلا ديفيز ونيكي جيفينز في كتابه الأسود يشعر بالسواد.. وكلها تعبير عن إنتاج ثقافي كان يحاول أن يدق الارض بأجنحة الشعر والأدب والسيرة والبحث احتجاجا على الطبيعة الشرسة للنظام الرأسمالي التي تجعل الحرب في السلم والحرب والعدواة لشيء ما أو أحد ما أو قوة ما؛ أي كانت جزءا من بنية الهيمنة لذلك النظام.

ولا بد للمتابع من ملاحظة المفارقات التي كان يواجهها طلاب تلك الفترة بدون أي سلاح إلا سلاح الأسئلة فلم يكن هناك إنترنت ولا السيدة جوجل ولاالسيد ويكليكس لتسهل النفاذ إلى قلب الحدث والتوصل إلى أدق المعلومات. كانت أمريكا في تلك المرحلة تبدو أنها للتو قد استتبت في ملاحقة جماح الفوضى الشبابية والتمرد الفكري والسلوكي والتفلت منه، والنقمة على التقاليد البرجوازية المتعالية على العمال والطلاب والنساء والسود التي مثلتها حركة الهيبين في طول البلاد وعرضها. كما كان النظام الأمريكي يبدو أنه للتو قد نجح في احتواء تيار ذلك الرفض الشبابي الصارخ لمنظومة النظام الراسمالي بعلاقاته الداخلية والخارجية الجارحة وبتنكره للطبيعة وبتشيئه للإنسان من خلال العمل المنظم غير التصادمي لدفع جموع شباب الستينات الهيبي من واجهة الميادين العامة وافتراش الطرقات الفارهة إلى معازل الحواري الخلفية لتلم عن المشهد العام موجات تلك الحركة الهبية الطافحة بأشكال شبابها الأشعث الأغبر الخارج على ناموس الحياة الحضرية بمعناها الصناعي والتقني والرأسمالي الاغترابي. ليس هذا وحسب بل إن ذلك النجاح بدا متقدما في هدفه بتحويل تلك الحركة الشبابية الغاضبة إلى مجرد صيحة من صيحات الاستهلاك الرأسمالي وموضة من موضات عجلة الإنتاج الاستهلاكية. وقد جرى ذلك باختطاف النظام الرأسمالي لقاموس الحياة الهيبية الجديد سواء في الموسيقى الصاخبة التي اشتهرت بها الحركة أو في لباسها الرث من الجينز والتيشيرت المتمرد على الياقات البيضاء وربطات العنق، أو سواء في إكسسوراتها المشتقة من الطبيعة كالعظم والخشب وفي أساليب مأكلها “النباتي” وميلها إلى المزاج والكيف أو في أسلوب حياتها الجموحي الخارج على نمط الحياة الأمريكية العام. وقد كان من الملفت أن ذلك النجاح الأمريكي لم يكتف باحتواء حركة الهيبيز واختطاف قاموسها الحياتي بل عمل على تفريغها من مضامين السخط والنقمة بمعناها الوجودي والاجتماعي-السياسي معا الذي كانت قد نبعت منه وتفجرت له كاحتجاج على حالة الاغتراب التي أنتجها النمط الرأسمالي للعلاقات بين القوى الاجتماعية آنذاك. غير أن أمريكا رغم ذلك النجاح في تحجيم وتطبيع حركة الشباب الهبية، بقيت لآخر قطرة في عقد السبعينات غير قادرة على الشفاء من لواعج تورطها في حرب فيتنام (1965- 1973). ولهذا ربما يمكن أن نضيف -بشيء من الثقة- أنه قد كان من حظ ذلك الجيل -جيلي الي درس في أمريكا مابعد منتصف السبعينات- أنه درس في مرحلة النقائض والمفارقات ولكنها تستحق بجدارة مسمى مرحلة الأسئلة. فقد بدا أن الشعب الأمريكي لتلك المرحلة كان قد تعب من عقدة الفوقية الأمريكية خارجيا، وانتفض في وجه بقايا وجيوب مكارثية الخمسينات (1953- 1958) وحملاتها التفتيشية على الضمائر والعقول والميول السياسية والفكرية. بل إننا درسنا هناك في فترة كان فيها المجتمع الأمريكي على مستوى الشارع والثقافة والأكاديميا قد شرع فعليا في اجتراح ثقافة مضادة توجه حراب الشك والأسئلة إلى سياسات الداخل والخارج الأمريكية لمساءلة العلاقة الملتبسة بين مفهوم الحرية والتعددية والحلم الأمريكي وبين واقع الهيمنة الخارجية الإمبريالي بولوغها ضد حريات الشعوب في أمثلتها اللاحصرية بواقعة خليج الخنازير، وانقلاب تشلي وعودة التوابيت السود في الإشارة لمصاب أمريكا في شبابها جراء الحرب ضد فيتنام.... وربما لذلك شكلت تلك الأرضية مجالا خصبا لكثير من الطلاب العرب والطلاب السعوديين منهم مساحة خصبة لاكتشاف أمريكا معرفيا ومجتمعيا خارج علاقة النقص أو التبعية التي كانت تربط دول ماكان يسمى بالعالم الثالث أو دول الأطراف بحسب سمير أمين وعدد من منظري أمريكا اللاتينية ودولة المركز. وربما لنفس أسباب تلك المرحلة الخصيبة أمريكيا والعصيبة عربيا، حيث كانت خصيبة على مستوى حركة النقد والنقض للسياسات الأمريكية في الداخل الأمريكي، وعصيبة على مستوى الحال السياسي العربي الذي انتهى فيه نصر حرب رمضان 73 بكبوة الصلح مع العدو الإسرائيلي وبالحرب اللبنانية وتعميق الشتات الفلسطيني والتبعية والتخلف عربيا، تحولت منظمة الطلاب العرب إلى تجربة معرفية وعملية. فقد شكلت منظمة الطلاب العرب المصرح لها بمختلف النشاطات السلمية الحرة كجزء من الجسم الطلابي الجامعي عبر جامعات معظم ولايات أمريكا أرضية غير مسبوقة للكثير من الطلاب والطالبات لصقل الوعي السياسي ولتطوير رؤى ومواقف نقدية. وهذه التجربة الطلابية أو تجربة العمل الطلابي من خلال منظمة الطلبة العرب تمثل لقطة طويلة وعميقة من مجرى تشكيل ذاكرتي الشخصية وووعي السياسي والاجتماعي أنا وطيف عريض من الطلبة العرب والطلبة السعوديون. وهي بهذا تجربة رائدة ومختلفة في العمل الطلابي والوطني في “المُغترب” على الأرض الأمريكية تستحق أن أفرد لها مقالا كاملا أو أكثر، على أني لا أعد وعدا قاطعا بذلك لعدة اعتبارات عى أن ما أعد به هو أن أعمل جاهدة على اجتراح ما يسمح به من الشفافية لكتابة هذا السرد السريالي لرحلتي الدراسية بأمريكا.

Fowziyaat@hotmail.com

Twitter: F@abukhalid

مقالات أخرى للكاتب