Friday 15/11/2013 Issue 15023 الجمعة 11 محرم 1435 العدد
15-11-2013

(أرَى العِرَاقَ طَويلَ اللّيلِ مُذْ نُعِيَتْ *** فَكَيْفَ لَيْلُ فَتَى الفِتْيَانِ فِي حَلَبِ)

عن العراق وسوريا ومصر واليمن أتحدث ضرورة هذه المرة، وبخاصة أن الكارثة تجاوزت الناس إلى أوطان عربية كاملة، وبطريقة تختلف عن حديث المفكر الدكتور تركي الحمد منذ عقود في كتابه “عن الإنسان أتحدث” والذي يعد ترفاً قياساً بحجم الكارثة التي وصلها ذلك الإنسان العربي،

وبخاصة بعدما رأيت مقطعاً في اليوتيب عبارة عن مجموعة من الرجال يطرحون رجلين أرضاً ويجلدونهما بسياط من حديد ويرمون عليهما (جنط سيارة) في صورة مقززة تعيدنا إلى المربع البدائي الأول في هذا الجزء من العالم حينما كان الإنسان يستر عورته بورق الأشجار، ثم يتقدم أحدهم ويشب النار في رأس أحدهما ويحترق أمام ضحكاتهم الهستيرية، مقاطع كثيرة انتشرت وستصبح ذات يوم شاهداً على ما كان بتفاصيل ملونة تختلف عن تفاصيل الحروب الكونية ذات اللون الأبيض والأسود، بل إن أدبيات الربيع العربي المستبيح للفضاء حتى أصبح متاحاً لمشاهدة الأطفال والنساء ستؤثر نفسياً على المستقبل الأنساني ولن تستطيع قوة إعادة تأهيله وتوازنه من جديد وبخاصة في الحياة المملوءة أصالة بالتنصت الذي وصل للمليارات، مما يعيدنا عقوداً إلى رواية جورج أورويل الشهيرة بعنوان “1984” التي تخيّل فيها المؤلف بعد أربعين سنة مجتمعاً خاضعاً برمّته للتلصص والتنصت معاً، لمصلحة من سماه الأخ الأكبر، وهو رمز للديكتاتور ونظم الحكم الشمولية وربما كان يقصد مايسمى بالفكر الشيوعي آنذاك.

وكما قالوا في رواية أورويل ما من مجال للفرار من المراقبة، في غرف النوم والحمامات، وهناك ما هو أبعد من ذلك، وهو قراءة النيّات، ونسي أولئك أن اغتيال الأجساد وإشعال النيران في الرؤوس لايعني شيئاً في الجدلية التاريخية ولن يقدر على الاغتيال الفكري المقيم والخالد، والذي يحتاج إلى فكر مثله يقاوم خلوده.. أما الذي يقترفه العربي في حق أخيه العربي باسم النصيرية والشبيحة وجبهة النصرة وداعش ولا أستثني أحداً لطخ يديه بدم أخيه فإنه في أخصر تعريف له هو رهان على مستقبل العقل العربي على الطريقة الجابرية والأركونية ونظريات النقد بالإزالة والمشرط الذي يكشط جزءاً من ذاكرة ذلك العقل لكي يشفى بعد أن أفسدته عوامل كثيرة لاحصر لها.. وهو أيضاً تعطيل لحلم الدولة المدنية لأن أطرافها مضادة للتمدن، وبالتالي للمستقبل بمجمل مكوناته الحضارية والمدنية والإنسانية.

صدقاً ما هذا السعار؟ وما هذه الوحشية؟ وأين العروبة؟ وأين الإسلام؟ وما قيمتنا كبشر بلا إنسانية، وما هذه البدائية التي سجلت في مشاهد اليوتيوب أقسى من مشاهد رواية الإخوة كرامازوف أو الإخوة الأعداء للكاتب الروسي دستويفسكي ليؤكد الزمن نفسه أن العداوة بين الإخوة منذ قابيل وهابيل وحتى آخر إنسان على ظهر هذا الكوكب لن تنتهي، ولن يجدي لبس البدلة ولا سرد سمفونيات التسامح الخالدة ولا مناهج التعليم المنتقاة مادام العقل الذي وراء كل هذا في الأسرة والمسجد والحوزة مبرمجاً بمنهجية طائفية.

أيها العالم المتمدن: العرب في هذا الزمن أكلوا القطط، وسكنوا الصفيح والخيمة على حدود بلادهم، واجتاحتهم الأوبئة التي احتفل العالم بأنها أصبحت من مخلفات العيش التعيس وأصبح عيشهم بين فكي كل هذا العدد من الكماشات طرداً واستيطاناً وتنكيلاً.

أيها العالم المتمدن: إن حقن أم ولدها المصاب بالتوحد بإبرة بنزين ليموت في مخيم الزغتري بعد أن عجزت عن حمله في طوابير الهجرة درس غير أخلاقي وعنيف لا تصمد أمامه كل محاولات الأنسنة لهذا العقل المتوحش والواقع المخيف، طفل يموت بقرار الأمومة التي لم تتجرد منها كل الكائنات في وكناتها والوحوش الضارية في أدغالها حفاظاً على النوع وتجردت منها هذه الأم لسبب يفوق التصور والتفسير لكل ما رسمه لنا الساسة والمفكرون والمصلحون والمفاوضون والجنرالات والعسكرتاريا ودهاليز هيئات الأمم ومجالسه الأمنية التي صاغها السالفون لنصرة المظلوم وليس لشرعنة الظلم وتأييد الظالم.

والأشد وطأة في هذه المتوالية التاريخية أن الإخوة الأعداء يتفاوضون ويتحاورون ويتناغمون في حفلاتهم التنكرية على طريقة رقصة التانجو، والتي يحبها المرضى كثيراً، وتحتاج لطرفين والكارثة حينما يكون الطرف الآخر الظل الذي لا تمسكه الأيادي ويختفي سريعاً في الظلام، فالرقص لا يجدي على مونولوج طويل لا تفهمه إلا الكائنات ذات العيون اللصوصية والتي تسكن الكهوف ولا تعرف تتعامل مع الشمس وطيوفها القزحية، وأخيراً قد يضطر المريض إلى التصفيق بيد واحدة مما سيحول تلك الحفلة التنكرية داخل شرنقة ضيقة لا تسمح بتمدد الرجلين حيث يأمل الراقص في واقع استثنائي مامر على بشر منذ العصر الأردوفيشي أو العصور الجليدية، فن الممكن من الحياة الضرورة فيه نشاز, والكلمات لا تحمل دلالات ومضامين، والعازف لا يصغي إليه أحد والمسرح بلا جمهور، وفي زمن مجنون ترجع عقارب ساعاته إلى الوراء بتسارع مخيف وكأنها على موعد مع الجهل والوباء والدمار بعدما عقدت صفقات بين البارود والتفخيخ والكوليرا وشلل الأطفال والجرب، وكل الأمراض التي احتفلت البشرية قبل عقود بالقضاء عليها حيث أعادها الاستبداد بفيروسات أشد فتكاً للإنسان والمدن على السواء مما يؤكد على فن تميز العرب بخاصة في الإبداع فيه وهو رثاء المدن التي هدمت على رؤوس أهلها ولم تكن هذه المرة بفعل غزاة طارئين وإنما بأيدي من هم مسؤولون بالحفاظ عليها كالتزام أخلاقي لا تغفره لهم الشعوب قاطبة على مر تاريخنا البشري السالف والقادم.

بعيداً عن السياسة وفواتير تكاليفها الباهظة لم تسرق أمة أوطانها مثلما فعل العرب وفي مقابل ذلك لم تبك أمة من الأمم مدنها مثل العرب الموعودين دائماً في نهاية كل حكم ونظام -ولا أدري لماذا- باستحققات كارثية ابتداء من سقوط مدن الأندلس وقصيدة أبي البقاء الرندي إلى الوقوف على قبر خليل حاوي الذي أقدم على الانتحار في غربته احتجاجاً على الاجتياح الإسرائيلي لبيروت العام 1982, وربما اختصر تلك المرحلة ما كتبه محمود درويش في قصيدته الشاهدة على اجتياح بيروت إذ قال: (ندعو لأندلسٍ إنْ حوصِرت حَلَبُ). وبعد ثلاثة عقود تقريباً حوصرت حلب وتم تدميرها وتدمير تراثها الإنساني، حلب سيف الدولة والمتنبي الذي أقل ما يقال عنه اليوم وماذا لو رآها اليوم محاصرة ومهدمة وناسها يأكلون القطط، ورؤوس رجالها تشتعل نيرانا, ماذا عساه أن يقول وهو الذي كان يخاطب سيف الدولة والتي اختصرها قوله في تعزيته بوفاة أخته في العراق:

أرى العراق طويل الليل مذ نعيت

فكيف ليل فتى الفتيان في حلب

وقوله في طريقه إليها من مصر مشتاقاً لسيف الدولة:

كلما رحبت بنا الأرض قلنا

حلب قصدنا وأنت السبيل

والسبيل حديقة في منتصفها من أجمل حدائق الدنيا آنذاك، وانتهاء ببيت يختصر مأساة المدن العربية المحاصرة كلها وهو قول شاعر اليمن البردوني في رسالته لأبي تمام:

ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي

مليحة عاشقاها السل والجرب

والله من وراء القصد،،،

abnthani@hotmail.com

عميد الموهبة والإبداع والتميز البحثي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

مقالات أخرى للكاتب