Friday 15/11/2013 Issue 15023 الجمعة 11 محرم 1435 العدد
15-11-2013

الأكل المناسب

ما أدق ما تعنيه الآيات الكريمات، من كتاب الله الكريم، وما أعظم ما تدلّ عليه، وخاصّة عند العلماء الذين يغوصون على المعاني، وما ورائها من فائدة، ولذا يجب أنْ نسترشد بالقرآن دائماً وفي كل أمر: يقول سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف.

وقد فهم كثير من الباحثين هذه الآية على معان عديدة، ومن ذلك:

قال ابن كثير في تفسيره: قال بعض السّلف: جمع الله الطبّ كله في نصف آية: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وقال البخاري قال ابن عباس، كُلْ ما شئْتَ، والبَسْ ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سَرَفٌ ومخيلة. وقال الإمام أحمد في مسنده: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، من غير مخيلة ولا سرف، فإنّ الله يحب أن يرى نعمته على عبده”، رواه النسائي والترمذي أيضاً من طرقٍ أخرى، منها اجتناب ما نهُي عنه كالروائح الكريهة والبصل الثوم وغيرها لما في ذلك من الإيذاء. وفي دلالة قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍَ} فهمها العلماء بستر العورة في الصلاة، المحددة للرجل والمرأة، لكن بعض منهم اجتهد بفهم آخر، الاستعداد للصلاة بأكمل زينة في اللباس والطيب، ولعل الأول هو المناسب. فمعرفة الإنسان بأسرار نفسه، وما هيأ الله هذه النفس له، من أمور سخرها الله لها، ومن فطرة فطر الله الناس عليها.

إذْ للنفس البشرية عادات وطبائع تختلف من شخص لشخص وحسب المهنة، ولها تنظيمات ومقاييس، والأكل والشرب هما الوقود الذي يمدّ الجسم البشريّ بالطاقة المحركة، ويعين النفس على العمل، وهذا الوقود إنْ زاد عن المقاييس التي تتحملها النفس، وتنظمها أجهزة البدن، كان الأمر ضاراً بهذا البدن، وهذا ما ينهى عنه شرع الله لأن النفس ملك لله، فلا يجب تحميلها فوق طاقتها.

وقد أعطانا رسول الله منهجاً قوياً، وقاعدة طبية راسخة في حماية النفس، والمحافظة عليها، وهذا جزء من تفسير مدلول الآية الكريمة، فقد روى الترمذي حديثاً عن المقدام بن معدْيكربْ، رضي الله عنه، وقال عنه إنه حسن صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمْنَ صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه).

ومع هذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يدعو الإنسان لتجويع نفسه، لأن هذا مما يضر بالبدن، ويعجل بالأسقام والهرم ويضعف عن العمل المطلوب من الفرد المسلم، لأن القوة مرغوبة في شريعة الإسلام، لما في قوة الفرد، من قوة للمجتمع، وبالتالي قوة للإسلام نفسه (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).

إن معرفة خفايا الجسم، وتأثير الطعام بالنفع إذا كان معتدلاً، وبالضرر إذا كان الطاعم مسرفاً جزء من العبادة والتفكر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعرفكم بنفسه، أعرفكم بربه) وكما يروى عن عيسى عليه السلام قوله: (اعرف نفسك تعرف رّبك).

ولو أردنا أن نسير مع الأطباء خطوات، لأدركنا من نصائحهم بعدم الإسراف، فوائد لهذه النفس البشرية ومصالح وقائية، من آفات وأمراض، يرجعون سببها إلى التناول الكثير لأشياء زائدة عن الكمية، التي تتحملها الأجهزة الدقيقة في هذا الجسم، فتتحول هذه الزيادة لأمراض مزمنة كالسمنة ومرض السكر والكلوسترول وغيرها.

وأقل ما ينتج عنها، الكسل في الأداء الوظيفي، والضعف في العبادات، والانعكاس على العمل أياً كان نوعه، وما ذلك إلا أن المعهود في حياتنا، أن الماء الذي يمرّ مع السواقي، لإفادة المرزوعات، يصبح نقياً ونظيفاً ما دام جريانه مستمراً وطريقه سالكاً، أما إذا سُدّ المجرى، فإن الماء يصبح راكداً فيأتيه الضرر، وتنمو فيه الطفيليات الضارة والطحالب.

فالأطباء مثلاً: ينهون عن الإكثار من الدهنيات، والأطعمة الدسمة المفرطة، لمن كانت حركته قليلة، أو لا يجهد بدنه بالعمل، لأن عمله عقلي، ذلك أن الله سبحانه جعل في الكبد مستودعاً ومعملاً للدهنيات، ضمن وظائف الكبد- على صغر حجمها- الكثيرة، التي تزيد عن خمسين وظيفة، فهي تحتفظ بجزء من الدهنيات للحاجة إليها، فيما لو نقصت الكمية المطلوبة، للبدن يومياً للتعويض، وتحرق الزائد، وتكاثر الأطعمة الدسمة، مع قلة الحركة لأن كثرتها مع الرياضة والأعمال البدنية كالمشي، تعين في إحراق الدهنيات، بما توزعه على الجسم من أسعار حرارية، والأطباء يرون أن الإسراف في الأطعمة ذات الدهون - كاللحوم الحمراء - ترهق الكبد وبالتالي يضعف عملها، وتصاب ببعض الأمراض والإجهاد، وجهاز المناعة المهم جداً في ا لكبد يضعف أثره.

وبالنسبة للسكريات والنشويات فيرون أن كثرتها يترتب عليها اضعاف الغدد المفرزة لمادة الأنسولين من البنكرياس، وينتج عن ذلك انتشار أمراض فالوقاية والاعتدال في المأكل مهم جداً، مع التقليل من الأبيضين: الملح والسكر.

أما الإسراف في تناول اللحوم - وخاصة الحمراء والزيادة في تعاطي البروتين فإنه ينشأ عنه اضطراب في التمثيل الغذائي لمادة (البيوري) وهي إحدى نتائج التمثيل الغذائي للبروتينات الحيوانية في جسم الإنسان حيث تزيد نسبة إنتاج حامض البلوليك في الجسم، أو يقل افرازه عن طريق الكلى فينشأ لدى الرجال خاصة مرض النقرس، الذي يسميه الأطباء مرض الأغنياء، ويروى لأحد أطباء اليونان قوله: نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع. وهكذا لو سرنا مع الأطباء، في آثار الأطعمة المباحة على الجسم عندما يسرف الإنسان في تناولها أو الأشربة المتعددة، عندما يأخذ الإنسان فوق طاقة بدنه، فإن الآثار تنعكس على صحة البدن، مما ندرك معه أن الله جلت قدرته قد أودع في أجسامنا موازين دقيقة وأجهزة محكمة، رفيعة المستوى، تفوق في التصور والعمل ما نظمه العلم الحديث من دقة في الكمبيوتر، وإحساس في الأجهزة، وضبط في الحسابات الرياضية تبرز من دلالة الآية:

{وَلاَ تُسْرِفُواْ}.

ذلك أن الجسم البشري من صنع العزيز الحكيم، حماه بعنايته من كل مؤثر، وأرشد سبحانه في كتابه الكريم، ووجه رسوله المصطفى الأمين، إلى الطرق المعينة على عمل تلك الأجهزة وحمايتها من الخلل، مثلما نجد في حياة الناس العادية، من إرشادات وتوجهات لكل جهاز، والمحافظة على ديمومته هذا لكل شيء صنعته يد البشر للمحافظة وحسن التشغيل والصيانة وحسن الأداء.

فالفرد إذا استرشد بدنيه، وصدر عن توجيهات الشريعة التي هي من عند الله والتزم بما فصله المختصون من أهل العلم، فإن أعماله تتحول عبادة يؤجر عليها، وستنفتح أمامه مغاليق هذه النفس البشرية، وسيرى أن قتل النفس الذي حرمه الله جاء من استعمال المحرم، فالخمر والمخدرات، وما في حكمها، مما يدخل في حكم المشروبات والمأكولات المحرمة المفصلة في شريعة الله، فسوف يرى أن تلك سموم تنهك البدن، حرمت لأضرارها العديدة: صحية ونفسية واجتماعية.

والزنا واللواط جاء تحريمهما، لما وراء ذلك من أضرار وأمراض عديدة في مقدمتها ضعف المناعة (الايدز) الذي سماه بعض الأطباء، طاعون القرن العشرين، والهربز والسلفس والزهري، علاوة على اختلاط الأنساب وقلق المجتمعات ونشوء الفوضى، وقطيعة الرحم، وتفكك المجتمعات وكثرة الموتى بأعمار قصيرة علاوة على غضب الرب، إذ كل أمر حرم في الإسلام نجد الراصدين والمتابعين، يبرزون عللاً يدفع الله بها، عن النفس البشرية إن هي تمسكت بأمر الله عقيدة وعملاً، أو تقع في تلك المصائب، وتجني آثارها إن هي خالفت، ألم يقل سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} ومثلنا العامي مأخوذ من دلالة الآية الكريمة: “مدعيّ له بأن يدفع الله البلاء عنه” هذا في العقاب الدنيوي، أما في الآخرة فالأمر أشد والعقاب أنكى لمن لم يتب قبل الممات.

وإن من التبصر في النفس البشرية، التعبد لله بامتثال أمره: بالنية والعمل، والمأكل والمشرب واجتناب نهيه في كل ذلك وأن يصدر الإنسان في المحافظة على نفسه من مصدر التوجيه التشريعي الذي وضعه الله لعباده الذي فيه سعادة وهناء بال، مع حماية النفس من الأضرار التي لا يدري عنها الإنسان، لأنها عناية الله التي تحوطه وترعاه في يقظته ونومه، وفي تنبهه وغفلته، ألم يخبر سبحانه عن هذا الإنسان {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (79) سورة النساء. ويقول سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ..} الآية وما بعدها (النساء 62).

وعلى كل عارف حكمة الله وتدبيره، الشكر والاعتراف بالفضل للمنعم سبحانه، الذي أحاط بكل شيء علماً، فخلقنا لمهمة وأفاض علينا من نعمه: في المأكل والمشرب والصحة والقدرات المتعددة لكي نؤدي الدور المعين على هذه المهمة التي خلقنا من أجلها.

mshuwaier@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب