Friday 29/11/2013 Issue 15037 الجمعة 25 محرم 1435 العدد
29-11-2013

اللهم لا شماتة .. ولكن الحل باليد!

الآن وقد أقلعت السماء، وبلعت (الوايتات) مياه الأنفاق التي لم تستوعبها مواسير وخزانات التصريف، وبعض المياه التي طفحت بها الشوارع، فإنه حق علينا أن نتذكر ما صار في هدوء، وأن نحاول الغوص في أعماقه لعلنا نصطاد بعض الأصداف ذات الدلالة.

الدلالة الأولى:

أن ما حدث من عواصف وأمطار وسيول قد تكرر من قبل وبانت آثاره في أكثر من منطقة وفي أكثر من موقع داخل المدن ومن ثم فقد تم رصدها وتسجيلها وتقدير خطورتها بما يوفر قاعدة معلومات يمكن في ضوئها اتخاذ الترتيبات الاحتياطية عند أول إنذار من جهة الأرصاد المختصة. فلا تكفي التحذيرات العامة (بأخذ الحيطة والحذر وعدم الخروج)، وإنما ينفع الناس تحديد وتسمية النقاط والأماكن الخطرة داخل المدن وخارجها، وتنظيم المرور وإقامة التحويلات المناسبة منذ اللحظة الأولى. وإذا كان الدفاع المدني يستحق الثناء لأنه أنقذ ما يقارب (800) فرد، فإنه يحصد ثناء أكثر لو طافت حواماته منذ البداية فوق الشعاب والأودية، وقام بالتنسيق مع المسؤولين في القرى والبلدات القريبة منها للتحذير من عبور مجاري السيول وتجمعات مياه الأمطار من أجل إبعادهم عنها والحيلولة دون تعرضهم للغرق أصلا، إن أمكن ذلك.

الدلالة الثانية

إن ألقينا مسؤولية المجازفة بالتعرض للخطر في الأودية ومجاري السيول - على الرغم من التحذيرات- على الأفراد أنفسهم، فلا يمكن أن نفعل ذلك داخل المدن أو على الطرق المعبدة. تصريف السيول من أولويات البنية التحتية -كما يقرر المهندسون- وهم يضعون على رأسها قنوات التصريف والحواجز الإسمنتية وتحويل مجاري السيل. وفي مدينة مثل الرياض يقع كثير من أحيائها السكنية على أودية مردومة أو في أراض منخفضة تجري في شوارعها مياه الأمطار كالسيل يكون التصريف أمرا حيويا. وقد شهدت مدينة الرياض قبل أكثر من عشرة أعوام فيضانا أصاب حي المحمدية وأنشئت على إثره قناة لتصريف السيل أراحت السكان من خطرة. أما مضخات شفط السيول المتجمعة في الأنفاق فإنها لا تنفع إلا إذا كانت بمواصفات عالية القدرة، وليس بالحد الأدنى الذي لا يصمد أمام المفاجآت والمبني على توقع ندرة حدوثها.

الدلالة الثالثة

أن ردود الأفعال - وخاصة ما يتعلق منها بالدراسة - لم تكن منسقة. وربما نشأ بعضها بدافع الخشية من المسؤولية. فقد علم الطلاب والطالبات ومعلموهم في بعض المناطق بتعليق الدراسة في وقت متأخر جدا من ليلة وفجر الاثنين من أسبوع المطر؛ وبعضهم لم يعرف إلا بعد أن توجه للمدرسة فعلا؛ وبعض الجامعات علق الدراسة وبعضها لم يفعل. فالأمر يتطلب في المستقبل أن تكون هناك مرجعية واحدة (ولتكن الدفاع المدني) مسؤولة عن إبلاغ الناس والمؤسسات بتوقعات الطقس، وأن تحدد من قبلها المواقع المعرضة للخطر والمهددة شوارعها بالغرق، وفي ضوء ذلك تتخذ الجهة المعنية قرار التعليق بدون تردد. وكما لاحظنا فقد علقت الدراسة في إحدى المرات في يوم لم تنزل فيه أمطار ولم تثر فيه عواصف.

الدلالة الرابعة

أن أعدادا كثيرة من الأنفاق والجسور والشوارع والمباني لم تتأثر مطلقا بانهمار وجريان السيول، فلم نلاحظ مثلا في طريق الملك فهد بالرياض ما لاحظناه على طرق أحدث منه. ومن الطريف أن موقعا للتواصل الاجتماعي بث صورة عن شوارع الجبيل في الجزء الذي تشرف عليه البلدية وأخرى عن الجزء الذي تشرف عليه الهيئة الملكية للجبيل وينبع. وشتان ما بين الصورتين: إحداهما فيها الشوارع غارقة بمياه الأمطار والأخرى نظيفة وجافه (إن صدقت الصورة). دلالة ذلك واضحة. فالمواصفات الجيدة التي تتخذ المعايير الجيدة، والرقابة الواعية التي تشرف على تنفيذها، والمقاولون المؤهلون الذين ينفذونها، هي التي تصنع الفارق. في هذا السياق يخطر على البال مشروع مترو الرياض وما إذا كانت الشركات المنفذة ستستفيد مما رأت بأم عينها من نقاط الضعف بتطبيق أعلى المواصفات للتغلب على تلك النقاط.

الدلالة الخامسة

أن كشف الأمطار الغزيرة لبعض الضعف في البنية التحتية لمدننا لا يمثل كل الظاهرة. فهناك ظواهر أخرى كشفت عن مثل هذا الضعف في مشاريع البنية التحتية، وأيضا في مشاريع التشغيل والتوريد، وأهمها تعثر المشاريع تحت التنفيذ وسوء التشغيل ورداءة المواد الموردة. هذه المشاريع الحكومية التي رصدت لها اعتمادات ضخمة - لاسيما مشاريع الإنشاء، نفذ بعضها بطريقة رديئة تقل تكلفتها كثيرا عن التكاليف المدفوعة للمقاول، ما يعني أن فرق التكلفة تسرب إلى مصادر أخرى على مختلف المستويات. أما الوسائل التي تتستر على هذا التسرب فلا نحتاج إلى استكشافها فهي معروفة. وإنما نحن في حاجة إلى كيان مؤسسي رقابي صرف، مهمته أن يراقب مراقبة واعية ما يعتمد من المشاريع الحكومية الكبيرة ابتداء بمواصفات المشروع وتأهيل المقاولين وإجراءات الطرح والترسية إلى تسليم المشروع للمقاول ومراقبة تنفيذه حسب المواصفات ثم استلام المشروع المنفذ. وسواء كان هذا الكيان هيئة مستقلة أو جناحا من أجنحة هيئة مكافحة الفساد فلا بد من تزويده بالكفاءات المتخصصة والاعتمادات الكافية والصلاحيات الواسعة، بما في ذلك التعاقد مع بيوت الخبرة المحلية والعالمية. ولئن كان في إنشاء هذا الكيان (أو الهيئة) عبء مالي فإن هذا العبء لا يساوي شيئا إذا قيس بالنتائج التي يكسبها الوطن من جراء حماية ثروة البلاد وبنيتها التحتية وتشغيل مرافقها من الإهدار.

مقالات أخرى للكاتب