Monday 02/12/2013 Issue 15040 الأثنين 28 محرم 1435 العدد

د. محمد بن أحمد الرشيد كما عرفته

تلقيت فجر الأحد 21-1-1435هـ - 24-11-2013م خبر وفاة معالي أ.د. محمد بن أحمد الرشيد فاجأني الخبر وفجعني فاجأني لأنه كان يبدو في صحة جيدة فيما عدا إشكالات كان يعاني منها في ركبتيه وقد حرمته هذه الاشكالات من مزاولة رياضته المفضلة وهي المشي ‹لكنها لم تكن عرضاً لشيء يهدد الحياة، كان أجله المحتوم ولا نقول إلا ما يرضي الله› أن لاحول ولا قوة إلا بالله وإنا إليه راجعون.

إني ‹ كالكثيرين ممن أسعدهم الحظ بمعرفة أبي أحمد والتعامل معه› لمحزون جداً على فقده، وليس هذا مجال بث حزني عليه فهذا شعور شخصي خاص سأحمله معي ما عشت لكني أردت أن أرثيه بذكر بعض ما أعرف عنه آملاً في أن يقتدي بسيرته وصفاته الحسنة بعض من يعملون في الشأن العام ، وتعزية لأهله ومحبيه وهم كثر.

كان بيني وبينه صلات عائلية لكني لم أعرفه شخصياً إلا حين عين وكيلاً لكلية التربية في جامعة الملك سعود في أوائل التسعينات من القرن الهجري الماضي، وقد ميز نفسه بالحماس المتوقد والرغبة الصادقة في إصلاح الكلية وتحسين أحوال الطلبة وكان كتلة من النشاط والأفكار المتجددة وذا قدرة غير عادية على التأثير في الجميع من الموظفين والطلبة والأساتذة وكبار إداريي الجامعة وكان له دور مهم في مشروع الجامعة للتحول من النظام السنوي في الدراسة إلى نظام المقررات، كنت معيداً في حينها وكلفني بالعمل مع اللجنة المسؤولة عن توصيف مقررات التربية ووضع ذلك في كتاب أشرفت على طباعته،كما كلفني بإدارة برنامج الدبلوم والدورات التدريبية وعينني محرراً لمجلة الكلية (التوباد)، كان العمل معه تجربة ثرية لعل أبرز ما فيها أن حماسه كان معدياً لمن يعملون معه.

ابتعثت لإكمال دراساتي العليا، وخلال غيابي عن الوطن عين مديراً لمكتب التربية العربي لدول الخليج، وبعد عودتي إلى المملكة (عام 1402هـ) بمدة انتهى تكليفه في المكتب فعاد إلى الجامعة حيث تزاملنا في كلية التربية سنوات قليلة، خلال هذه السنوات كلفته مؤسسة الملك فيصل الخيرية بإنشاء مدارس الملك فيصل فطلب مني مساعدته في ذلك فوضعنا لها نظاماً كان فريداً بين المدارس السعودية في حينها.

أثناء عملي في كلية التربية كنت مستشاراً غير متفرغ لرئاسة تعليم البنات› وقد طلبت مني الرئاسة اقتراح فريق من المستشارين فنصحتهم بتعيين د. محمد الرشيد رئيساً للفريق واخترت معه الأعضاء فكانت رئاسته درساً لنا جميعاً في القيادة وفي الفاعلية الإدارية.

تقاعدت تقاعداً مبكراً من العمل الحكومي وعملت نائباً للرئيس في مؤسسة بيت الرياض وقد طلب مني رئيسها ورئيس غرفة التجارة والصناعة في حينها الشيخ عبدالرحمن الجريسي اقتراح فريق من المستشارين يربطون ما بين القطاعين العام والأهلي فاقترحت د. محمد الرشيد رئيساَ للفريق، وكما فعلنا أول مرة اخترنا أعضاء كان لهم دور لابأس به في تنبيه الغرفة إلى مسائل في الشأن العام تحتاج اهتمام الغرفة وفاعلية القطاع الخاص .

في هذه الأثناء كان د. محمد عضواً في مجلس الشورى حيث برز بين زملائه كمتحدث بليغ باسم التربية والتعليم يحمل هم التربية وطموح الأهالي، وقد توج ولاة الأمر سجله المتميز بتعيينه وزيراً للمعارف ( التي صارت تسمى فيما بعد وزارة التربية والتعليم).

تزامن تعيين د. محمد وزيراً للتربية مع خروجي من مؤسسة بيت الرياض حيث رغبت في أن أنشئ عملاً خاصاً بي لكن أبا أحمد ألح علي في الانضمام إليه ومساعدته ولو سنة واحدة كما قال فوضعت خططي الشخصية على الرف على أن أعود إليها بعد سنة غير أن السنة امتدت إلى عقد كامل حيث عملت معه مستشاراً ثم مديراً عاماً للتعليم الأجنبي وأخيراً أميناً عاماً لمؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهوبين.

كان هذا العقد أكثر سنوات حياتي إنجازاً وأحفلها بالشأن العام وأنا فخور بما تم إنجازه في هذه المدة وأعزو إلى د. محمد الرشيد الفضل بعد الله في فتح هذا المجال الرحب للمدارس العالمية التي صارت تشكل جزءاً مهماً من المنظومة التعليمية في المملكة، وكذلك في ترجمة رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بشأن الموهوبين إلى مؤسسة حقيقية قائمة ذات برامج مؤثرة في حياة الآلاف من أصحاب الموهبة سواء من الطلبة أو المخترعين أو المبدعين.

كان أبو أحمد يتصف ببعض أفضل ما نحب نحن العرب أن نتصف به، كان واصل الرحم محباً لوالديه يذكر أباه دوماً بإعجاب ومحبة ‹وباراً بوالدته التي متعه الله بعيشها معه حتى تقدم بها العمر وتوفيت وهي عنه راضية› رحمهم الله جميعاً.

وكان كريم الروح واليد ومضيافاً حريصاً على أن يرى أقاربه وأصدقاءه وزملاءه حوله دوماً، وكان في تعامله مع الجميع عفوياُ غير متكلف ذا موهبة وجدانية متميزة تجعله يؤثر فيمن حوله تأثيرا عميقاً بحيث ينساقون إلى العمل معه بإخلاص ومحبة وكل منهم يرى أنه الأقرب إليه مما يرى من مودته وصدق مشاعره.

وكان يبادل الناس وداً بود ويبر بأصدقائه وزملائه ومعارفه ‹ شهماً إذا احتاجوه، أذكر أن زميلاً سابقاً له من السودان كان قد تقاعد منذ سنين واتصل يشكو من مرض يصيب أبناءه بعد العاشرة تعاطف معه كثيرون ممن عرفوا عن مصيبته لكن لم يتحمس لنجدته سوى د. محمد حيث كوّن من بعضنا وفداً ذهبنا إلى الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله نستنجد به لمساعدة المثكول فكلف سمو الأمير الخدمات الطبية في وزارة الدفاع لنجدة الرجل.

ولم يكن نبله قاصراً على علاقاته الخاصة مع الأقارب والأصدقاء والزملاء بل كان يشمل ما يصيب أمته العربية والمسلمة، أذكر أننا كنا نتألم مما يقع للمسلمين من ظلم في البوسنة لكن أبا أحمد أخذ زمام المبادرة فكون فريقاً صغيراً ذهبنا إلى سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله حين كان أميراً للرياض لننقل إليه تألمنا كمواطنين سعوديين مما يحصل لإخوتنا في البوسنة.

كسب د. محمد مودة الناس وثقتهم بما كانوا يرون من صدقه وحماسه وظلوا يترددون عليه ويزورونه حتى بعد تركه للعمل العام بل لعل من كانوا يرتادون مجلسه بعد تركه للوزارة أكثر ممن كانوا يأتونه وهو وزير.

أعان الله أبا أحمد بزوجة مخلصة وفية هي السيدة الفاضلة- سلوى بنت عبدالله التويجري، كانت نعم العون له في التزاماته العائلية وفي تهيئة منزله للقيام بواجباته المهنية والاجتماعية، وكان رحمه الله يثني عليها دوماً ويذكرها بما تستحق من التقدير والاحترام، كما رزقه الله بأبناء بررة ملؤوا حياته سعادة وكان فخوراً جداً بهم لا يذكرهم إلا ويحمد الله على توفيقه بهم، وقد قضى والدهم وهو راض عنهم نسأل الله أن يبارك فيهم وأن يعينهم على تحمل مصابهم الجلل وعلى إحياء ذكر والدهم بالعمل الصالح في الشأنين العام والخاص.

على المستوى المهني كان يتحمس لما يعمل بل لا يعمل إلا ما هو متحمس له ثم يكون حماسه مهيمناً حتى ينتقل إلى من حوله وكل منهم يود لو ينجح فيما كلفه به أبو أحمد، وبموهبته هذه في الالتحام بالناس والتأثير عليهم كان قائداً طبيعياً لهم سواء في العمل أو في أواسط أقاربه أو أصدقائه.

كان د. محمد ينطلق في كل شؤونه العامة والخاصة من إيمان عميق بربه واقتناع تام بدينه وكان فيه ورع صادق لا رياء فيه ولا تظاهر سافرت معه مئات المرات في الداخل والخارج فلم أره يتساهل ولا مرة واحدة بفروض دينه ولا حتى بالعبادات المستحبة، كنت واثنان آخران من مسؤولي الوزارة معه عائدين من لقاء مسؤولي وزارات التربية في كراكاس عاصمة فنزويلا، وهو لقاء تحضيري لقمة زعماء دول الأوبك عام 2000م، وصلينا العشاء في المطار ثم ركبنا الطائرة التي أقلتنا إلى زيارة أخرى في أمريكا الشمالية، بعد أن ارتفعت الطائرة تناولنا وجبة العشاء ثم تجاذبنا أطراف الحديث، كنا في الليل والظلام يخيم على الطائرة أغمضت عيني أملاً في نوم يقطع علي مدة الرحلة الطويلة أو شيئاً منها فلم أستطع تلفت فوجدت الجميع نائمين إلا محمد الرشيد كان قائماً يصلي بخشوع شديد على بطانية فرشها كسجادة بين قمرة الملاحين ومقاعد الركاب.

رحم الله أبا أحمد، كان رجلاً متميزاً وصديقاً لمئات من الناس كل منهم له معه ذكرى أو ذكريات جميلة ظهر فيها شيء من نبل محمد الرشيد أو إخلاصه أو سعة صدره أو غير ذلك من صفاته الحسنة التي عرفناه بها، نحن الذين عرفنا أبا أحمد وصادقناه أو عملنا معه سنفتقده صديقاً أو زميلاً أو رئيساً لكن المقياس الحقيقي لقيمة أي إنسان هو تأثيره في حياة أكبر عدد من الناس وبهذا المقياس كان للدكتور محمد تأثير كبير وإيجابي في حياة ملايين الطلاب الذين عمل بإخلاص وجد ومثابرة ليكون نظامهم التعليمي أفضل محتوى وأرحب مجالاً وأكفأ تقديماً مما وجده حين تولى الوزارة.

لم يكن د. محمد أول من فكر في جامعة الخليج أو تنظيم التعليم الدولي في المملكة أو إنشاء مؤسسة للموهوبين أو وضع نظام التقييم المدارس السعودية أو منع المشروبات السكرية من مقاصف المدارس أو غير ذلك من المشاريع التي ارتبطت باسمه لكنه كان الذي أخذ المبادرة لتحويل مئات الأفكار القيمة إلى مبادرات حية ثم دفع بالمبادرات فصارت مشاريع وحقائق واقعة.. لهذه المبادرات والمشاريع كلنا مدينون للدكتور محمد الرشيد وكلنا سنفتقده.

رحم الله أبا أحمد

- د. حمد بن محمد البعادي