Friday 06/12/2013 Issue 15044 الجمعة 02 صفر 1435 العدد
06-12-2013

جدلية صراع المتناقضات بين أنماط الحياة

منذ أن اهتدى الإنسان للعيش مع الآخرين مغادراً حياة العزلة والتوحش ليقترب من عوالم المكان يكتشف خباياه وأسراره..يتآلف معه يحاوره ويتفاعل مع كل أجزائه..يكون بذلك قد وضع حجر الأساس لنشأة المدينة وحضارتها فتصبح على مر العصور صورة لكفاحه المزمن ومقياساً لرقيه وحضارته..

ونفياً لعزلته الفردية بمنحها قدرة التواصل والذوبان في إطار الوعي الجماعي. إن المتأمل لأزمة الحضارات القديمة منها والحديثة يدرك تماماً أنها أزمة الإنسان نفسه..الإنسان الذي نبتت وترعرعت في أعماقه بذور ثنائية التناقضات نتيجة الرغبات والأهداف المستقلة أو المتضاربة مع الغايات الجماعية أو المرتبطة بحياة البشر والمصير الإنساني.

عمق العلاقة بين فاعلية الإنسان البدائي وحضارات أرضه وتاريخ مكانه وزمانه.. تجلت أبعادها ومضامينها في كثير من الملاحم الكبرى التي كشفت الحجب التاريخية السحيقة للحضارات القديمة.. ولعل أسبقية البصمة التاريخية الأولى كانت لحضارتي وادي الرافدين ووادي النيل بل تكاد تكون حضارة وادي الرافدين في رأي الباحثين والمعنيين من أقدم وأعرق الحضارات الإنسانية.. ففي بلاد الرافدين ابتدع الإنسان الكتابة في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد.. مما أدى ذلك إلى ظهور النصوص الشعرية الملحمية الزاخرة بالكثير من القضايا الإنسانية التي شغلت بال الإنسان منذ أقدم العصور..كالنجاح والفشل.. الخطيئة والندم..الشقاء والسعادة.. الصراع بين الخير والشر.. العداوة والتفرقة، ثم تحول العداوة إلى صحبة وصداقة إلى غير ذلك من الدلالات والمضامين التي تحفل بها النصوص الملحمية. ملاحم كثيرة ومعروفة بقي مداها وصداها قائماً لجمالِ سبكها وحبكة وقائعها في معالجة المواضيع كإلياذة الشاعر اليوناني هوميروس والفردوس المفقود لملتون.. إلا أن أقدم ملحمة تاريخية هي ملحمة (كلكامش) التي تكاد تُضارِع في قدمها ملاحم شهيرة كملحمة الأوديسة والإلياذة. جذور ملحمة كلكامش جذورٌ بابلية ممتدة في عروق الثقافة السومرية..وهي عبارة عن قصيدة شعرية طويلة استمدت اسمها من شخصية البطل الذي كان من أقوى الملوك السومريين في فترة حافلة بالصراعات الدامية بين دول المدينة التي أُسست. ملحمة كلكامش ملحمة تكشف العلاقة الوثيقة للمدينة والبطل.. والبطل لم يكن فقط بطلاً إنسانياً حسب تواتر الروايات بل كان أيضاً بطلاً مأساوياً في تاريخ الأدب العالمي.. مأساته تكمن في فشله النهائي للتوصل إلى نبتة الخلود التي جاهد وسعى من أجل الحصول عليها.. فقد كان يزعم أن من شأنها أن تعيد الشيخ إلى صباه.. فإن اهتدى إليها سيهبها لكل شيوخ المدينة لاستعادة شبابِهم من جديد.. إلا أن الفشل ذاته هو سر بطولته وإنسانيته فرغم سوء استخدام سلطته نحو رعاياه حيث كان يجعل الفتيان وقوداً لحروبه ويدفع بكبار السن إلى العمل حتى الموت في بناء أسوار المدينة.. ويسلب العذارى بكارتهن رغم ذلك كله جاءت نقطة التحول عندما ناشد الأهالي آلهتهم لإنقاذهم من هذه المظالم..فكان أن جاء الغريم الذي يضارعه في قوة القلب والعزيمة إنه الرجل العجيب الصنديد (أنكيدو) ليشتبك البطلان في قتالٍ ضارٍ ينتهي بهزيمة أنكيدو.. لم يقتل كلكامشخصمه أو يأسره بل أُعجِب بقوته وبسالته فكان العناق بينهما وأقسما على الصداقة الأبدية وصارا خلِّين حميمين يلازمُ أحدُهما الآخر.. وتتطور أحداث الملحمة لتأخذ أبعاداً تكشف لنا أضواءً عن مسألة التحدي والاستجابة.. وتعكس أدواراً وأحداثاً أخلاقية قيمة بعد صراعٍ مرير بين المتناقضات التي طغت على حياة البشرية. ويشاء قدر الله أن يموت الخصم الذي أصبح صديقاً ليحزن كلكامش حزناً عميقاً على فقده فيبكيه ويرثيه ويوقن بعدها أن مصيره لن يكون أفضل من مصير صديقه.. ويوقن أكثر أن البحث عن نبتة الخلود هي أشبه بالركض خلف سراب.. وأن صراع الإنسان ومحاولاته بلوغ المستحيل من خلال التشبث بالبقاء رغم ما يقدمه من تضحيات وركوب المخاطر والصعاب سرعان ما يتلاشى ويصبح مجرد وهم.. لكن ذلك كله يُستبدل بخلودٍ من نوعٍ آخر.. خلود يجسده فعل الخير والإنجاز الذي ينفع الآخرين.. فبذور الشر لا يمكن أن تنمو لتزاحم حقول الخير..والانتصار سيكون دوماً للإرادة البشرية الخيِّرة.

zakia-hj1@hotmail.com

Twitter @2zakia

مقالات أخرى للكاتب