Tuesday 10/12/2013 Issue 15048 الثلاثاء 06 صفر 1435 العدد
10-12-2013

تَقْمِيْشاتٌ مِنَ السِّيْرةِ الذَّاتِيَّةِ ..! 4

فرصة العمر الذهبية تلك الثغرة التي فتحتها لنا [جامعة الأزهر] من خلال [كلية اللغة العربية] فيها. وهي تمكين حَمَلةِ الشهادة الجامعية من الدراسات العليا، عن طريق الانتساب. ولقد كان نصيب [السعوديين] منها من أوفر الأنصبة،

لكون الأساتذة المعارين لجامعاتها من أساتذة الأزهر، ولأن [جامعة الإمام] وفَّرت لهم أجواءً ملائمةً. وبخاصة بعد اختلاف الإسلاميين منهم مع المد الاشتراكي والقومي في بلادهم. فالعائدون منهم، والمقيمون سَعَوا لتوفير تلك الفرصة. ولو لم تُهيِّءِ [جامعة الأزهر] تلك الفرصة، لما أكملت دراستي العليا.

لقد تسابق الجامعيون، وتم تسجيل أعداد كبيرة منهم. وحين زُوِّدْنا بالمراجع، قال البعض مِنَّا: لا طاقة لنا بها. ورضي من الغنيمة بالإياب. وتحامل آخرون على أنفسهم، ولكن لم يحالف البعض منهم الحَظُّ، وأصرَّ من بقي على مغالبة المصاعب، فكتب لهم النجاح. ولم يكمل الدراسة إلا القليل ممن بادروا هذه الفرصة. وفي عام التخرج كنت الأول، وكان بيني وبين الثاني من الخريجين عشر درجات، وتلك نعمة يمن الله بها على من يشاء من عباده.

هذه المكرمة من [الأزهر]، لم تُعْجِب القاعدين، فراحوا يصفونها بـ[شهادة الصيف]. ولما عدنا نحمل شهادة الماجستير، لم يُرَحِّبْ بنا [ديوان الموظفين ] آنذاك، وتلكأ في ترقيتنا بموجب تلك الشهادة، متأثراً بما يشاع من اعتراض. ولما تظلمنا أمام [المقام السامي] جاء الرد حاسماً وعادلاً، ومضمونه: [إذا كنتم تَشُكُّون فيما منح من شهادات لأبناء البلاد، فليمتد شككم للمتعاقدين كافة من المصريين الذين يحملون ذات الشهادة من الأزهر]. وبعد أن كان الديوان يذودنا عن الموارد، أصبح يلاحقنا، ويستحثنا، لاستكمال مسوغات الترقية. وقضي الأمر الذي طال فيه الخصام. كنا نسافر إلى مصر بعد انتهاء الامتحانات في المملكة، ونقيم فيها كُلَّ العطلة الصيفية، نَدْرس، ونقابل الأساتذة، ونراجع مع الطلاب المنتظمين، ونحضر بعض مواد الصيف، ونحصل على ما لم يصل إلينا من المراجع، ونحاول اكتشاف المهم، ونستعطف الأساتذة للتخفيف عنا، وَنلْقَى في محاولاتنا خيراً كثيراً، فالمصريون طيبون إذا جئتهم من الأبواب.

بعض الأساتذة يُقَرِّرُ علينا خمسةً من كتبه للمادة التي يُدَرِّسها. ويُلْزِم وكيلنا بشرائها لكل طالب منتسب. وهي كتب تجميع، وقص، ولزق، لا طعم فيها، ولا رائحة، ولكننا ملزمون بشرائها. ولربما تكون الوحيدة التي نَتْركها، حيث كنا بعد الامتحان. لقد اكتشفنا جشع البعض، ونزاهة الآخرين، ومن باب الاحتراس، مَنَعَتْ بعض جامِعاتنا تقرير الأستاذ لبعض مؤلفاته، مع أن في ذلك ما فيه من الحيف.

كنا في الامتحان نواجه تحدياً لا نظير له، ومواقف تشدد استثنائي، لأن طائفة من الطلاب المنتظمين من المصريين والمبتعثين يحسدوننا على ما آتانا الله من فضله. ولكننا صَمَدْنا، وقبلنا التحدي، ولم نبدِ أي تذمر، أذكر أن أستاذ [مادة النصوص] من ضمن ما قرر علينا [لامية الشنفرى] أكثر من سبعين بيتاً، حفظاً مُتَسَلْسِلاً، وشرحاً مفصلاً، وإعراباً شاملاً، وبلاغة، ولغة.

وكانت صيغة السؤال من أعقد الصيغ. فهو يطلب كتابة عشرة أبيات من اللامية، من حفظنا، مرتبة كما جاءت، ثم يطلب إعراب البيت الثالث، وتجريد مفردات البيت الخامس، واستخراج الوجوه البلاغية في البيت السابع، وتحديد المجرد والمزيد في كلمات البيت العاشر، وتقسيم الأبيات وفق الأشواط الدلالية في الأبيات العشرة، ومدى وحدتها العضوية والدلالية والموسيقية، وما الزحافات والعلل في عروضها؟. فلو لم يحفظ الطالب، أو أنه حفظ دون ترتيب، فإنه يخفق، وإن كان متميزاً فيما سوى هذا النص.

أقول هذا فيما يظل الفضل كل الفضل للأزهر، وللقائمين عليه، فهو بحق أهل الثناء والشكر. لقد أشعرنا بقيمة العلم، وعلمنا الاعتماد على النفس، وعرفنا بقيمة اللغة وآدابها. وما كنا لنعرف أسرار العربية، لو أنه جاملنا، أو تسامح معنا.

في مادة [التعيين] على ما أذكر، يحدد المُمْتَحِنُ للطالب صفحة معينة من كتاب تراثي، قبل موعد الامتحان بأيام، كي يقَرءها أمام أستاذين، فإذا فرغ من قراءتها دون لحن، وجهت إليه الأسئلة: نحواً، وصرفاً، وبلاغة، ولغة.

وأذكر أنه قُرِّر علي صفحةٌ من كتاب [سر الفصاحة] لابن سنان الخفاجي، ولزمت سكني، أُعْرِب، وأُجَرِّد، وأشْرَح، واستخرج الوجوه البلاغية، وحين مثلت أمامهما بدأت القراءة:-

[يُرْوى أن هشام بن عبدالملك...]

فقال الدكتور الممتحن [سليمان ربيع] رحمه الله: أين نائب الفاعل؟ فارتج علي، وكنت أعرف المصدر المنسبك، ولكنني استبعدت سبك الأعلام، فلم أُجِبْ. وقلت: لعلي أعرب بقية النص، فلم يقبل. غير أن قراءتي أعجبته، فَغَضَّ الطرف، وصرفني بلطف، وهو إذ علم أنني [صحفي] أحمل بطاقة [جريدة الجزيرة] إذ ذاك، قال لي: صحفي، ولا يعرف نائب الفاعل!. ومضيت، وأنا خائف من الرسوب، ولكن الله سَلَّم.

في الأزهر تبدو هيبة أعضاء التدريس، ولم أشاهد في حياتي طُلاَّباً يقبِّلون أَيْدي أساتذتهم، مثلما شاهدت في الأزهر، ولا طلاباً كأن على رؤوسهم الطير في القاعات. الشيء الملفت للنظر، أن في الأزهر أساتذةً متبحرين، يتدفقون علماً وهيبة، وآخرين مُقْوِين، متسطحين - ولا وسطية-. والذين يَفِيْضُون معرفة، تبدو على ملامحهم الهيبة، والصرامة، وقوة الشخصية. إذا دخل أحدهم القاعة، لا يدخل بعده أحد، ولا يجوز لكائن من كان أن يفتح باب القاعة. وإذا انطلق في الحديث، لا يجوز لأي طالب أن يُقَاطعهُ، فإذا فرغ فتح باب الأسئلة. وقد تنتهي المحاضرة قبل أن يَفْرَغَ، وقد تنتهي، وهو لم يكمل جواباً واحداً. وإذا خرج تتأجج الصالة باختلاف الطلاب حول ما قرره من آراء. وإذا جئته في مكتبه، لم تتح لك الفرصة للحديث من كثرة المتكدسين. فيما تظل أبواب الآخرين مشرعة، وهم وحدهم يجيلون نظرهم في المارة، وفي القاعة، لا يكف الطلبة عن تبادل الأحاديث، أو التثاؤب، أو الاشتغال لملء الفراغ، فالأستاذ يُرْغِي ويُزْبِد، ولكنه لا يقول شيئاً.

أعرف أساتذة كالنمل، وآخرين كالنحل، وكم هو الفرق بين دأب النمل في الجمع، وتحليق النحل، لامتصاص نسغ الأزهار. النمل يجمع لا غير، والنحل ينتج، وهكذا الأساتذة. منهم الجَمَّاع، ومنهم المتمثل، الذي يُحَوِّل لك المقروء إلى شيء آخر. وصدق رسول الهداية:- [فَرُبَّ مَبَلَّغٍ أوعَى من سامع]. لقد درسنا [البائية] لأبي تمام، و[السينية] للبحتري، و[اللامية] للشنفرى على أساتذة، فما زادونا بها إلا جهلاً، وما أكسبونا إلا كرهاً لها ونفوراً منها. ودرسنا تلك القصائد العصماء على آخرين، فاكتشفنا عوالم لم نكن نعلمها، وَقَرَّبونا من الشعراء، فَضْلاً عن القصائد.

والكتب كالأساتذة، يخدعك العنوان، حتى إذا بدأت القراءة، أحسست أنك قد خُدِعْت. وكم من كِتَابٍ سَعَيتُ جهدي لشرائه، وحين اكتشفت ضَعْف أسلوبه، وتكرار معانيه، وضحالة معارفة، نبذته كالنواة، وأسفت على الوقت والمال المبذولين فيه. وأول تنبيه، وتحذير من خداع العناوين قرأته، للأستاذ [مصطفى لطفي المنفلوطي] في كتابه [النظرات]، مع أنه أجحف بحق [ابن إياس] و[الهاشمي]، فكتاباهما [بدائع الزهور] و[جواهر الأدب] ليسا من السوء، بحيث تكون العناوين خداعات، ولكنه مع هذا حذرنا من جاذبية العناوين. ومناهج النقد اللغوي الحديثة، تنبهت لهذا، وشكلت مصطلحات حديثة كـ[عتبات النص] ويقابلها في التراث [الاستهلال] و [المطالع] وأهمية ذلك للإثارة والجذب.

قدري الحميد أنني أمضيت في التعليم نصف قرن ونيِّف، ولَمَّا أزل أستاذاً غير متفرغ في [جامعة القصيم]، بدأت مُدَرِّساً للابتدائي عام 1379هـ وأنا إذ ذاك لا أحمل إلا شهادة الابتدائية، ومررت بكل المراحل حتى الدراسات العلياء، إضافة إلى الإشراف على الرسائل العلمية: الماجستير والدكتوراه، ومناقشتها، والتحكيم في بحوث الترقية، والجوائز العالمية، وتلك من نعم الله. فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي. وأحسب أنني قَدَّمت لطلابي ما كنت أتمنى أن يقدمه لي أساتذتي. كنت أعوض النقص بما أفيضه على الطلاب من محبة، فأنا لا أكره أحداً، ولا أفاضل بين الطلاب، قد أقسوا، ولكنني لا أحمل حقداً، ولا كراهية، وفضل الله علي واسع، لقد تخرج على يدي خلال نصف قرن آلاف الطلاب الذين تنازعتهم التخصصات واستقبلتهم المواقع، وما اختلطت في جَمْع من القوم، إلا بدر منهم من يحتفي بي، ويدعو لي، ويذكرني بِسِنِيِّ طلبه علي، وكم من خدمة قُدِّمتْ لي في مختلف القطاعات من موظفين لا أعرفهم، ولكنهم لم ينسوا فضل المعلمين. وتلك ثروة لا أعدل بها أي ثروة، ونصيحتي دائماً لطلابي الذين على مشارف التخرج أن يزرعوا مَحَبَّتَهم في قلوب طلابهم، وأذكرهم بقول الشاعر :-

[من يَصْنَع المَعْروفَ لا يَعْدَم جَوَازِيَه:

لا يذْهبُ العُرْفُ بين الله والنَّاسِ]

ومما حفظت من تجارب المعلمين الأوائل، أن أستاذ تربية في إحدى الجامعات الغربية، عَنَّ له أخذ مجموعة من طلابه إلى إحدى المدارس في الأحياء الفقيرة، لجمع المعلومات عن أحوال طلابها الأسرية، فتبين له أن آباء وأمهات مئتي طالب من ذوي السوابق. وطلب من طلابه كتابة تَوَقُّعاتِهم المستقبلية لهؤلاء الطلاب. فأجمعوا على أنهم سيكونون كآبائهم، وأُمهاتهم منحرفين. وحفظ الأستاذ تلك البطاقات، وبعد عشرين عاماً، أخرجها، وطلب من طلابه اللاحقين متابعة أحوال أولئك الطلاب، والتعرف على مصائرهم، فأتضح أنهم تخرجوا بتخصصات نادرة، ولم ينحرف منهم إلا القليل. فطلب التعرف على هؤلاء الطلاب في مواقعهم، ليسألهم عن سِرِّ تفوقهم، وسلامتهم من الاقتداء بآبائهم وأمهاتهم. فكان جوابهم: ما لقيه كل واحد منهم من أستاذهم من حب، ورعاية، ومتابعة، وإحساس بالأبوية التي فقدها بعضهم، ولا شيء غير هذا الحب.

فتبين أن الحب وحده قادرٌ على تهيئة الأجواء التعليمية المناسبة.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب