Sunday 15/12/2013 Issue 15053 الأحد 12 صفر 1435 العدد
15-12-2013

الشعر النبطي شر لا بد منه!

لقي الشعر النبطي -ولا يزال يلقى- رفضا متفاوتا من نخب من المفكرين والمثقفين في الداخل والخارج, ودارت حوله حوارات طويلة في عدد من المشاهد الثقافية, ونقلتها وسائل الإعلام المختلفة في ثمانينيات القرن الميلادي الماضي وما بعدها. وإذا كانت هذه القضية قد نضجت واحترقت كما يقال عن بعض العلوم فإني أظن أن الحديث فيها لا يضر ولا يؤثِّم.

فمن قرأ وعاصر صراعات رفض الشعر النبطي والدفاع عنه في تلك الحقبة وغيرها يدرك أن الرافضين للشعر النبطي أنواع:

فمنهم الغيور على الفصحى الذي يرى في الاهتمام به ومباشرته نظما أو رواية أو دراسة, ردة قومية, وهزيمة حضارية, وخيانة دينية, ولذا يرى أنه يجب استئصال شأفته من جذروها قبل أن ينتشر شرّه ويخبث تورّمه.

وغيرة هؤلاء مفهومة ومحمودة لولا أنها أسرفت وتجنّت, والإخلاص للدين والهوية لا يعني التفويض باستئصال ما لا يمكن استئصاله على الشُّبهة, ولا يعني تصنيف كل ما يمت إلى العامية في الأدب على أنه انتصار للعامية وتنفيذٌ لمخططات التغريب وفصل الأمة عن تراثها تمهيدا للقضاء على دينها, فالشعر النبطي نشأ نشأة طبيعية قبل قرون يرى بعضهم أنها تقارب العشرة, وسار متوافقاً مع طبيعة الحياة في المجتمع الذي نبت وترعرع فيه, ولا علاقة له بأي دعوة مشبوهة.

ومن الرافضين للشعر النبطي جاهل به وبطبيعته, والناس أعداء ما جهلوا, ولذلك فهو لا يفهمه ولا يتذوقه وبالتالي لا يرى فيه أي مظهر من مظاهر الشعر فليس له في رأيه بُعْدٌ فنّي وليس فيه بواعث الجمال الأدبي.

وهناك نوع معتدل لا يرفض الشعر النبطي لذاته بل يرفض أن يُتبنى على أنه «فكر» تقوم حوله الدراسات, أو يعطى اهتماماً إعلامياً أكبر من حجمه. وقاد هذا التوجه الدكتور مرزوق بن تنباك, ولخص رؤيته هذه في كتابه (الفصحى ونظرية الفكر العامي).

ومن الرافضين من رضي به أمراً واقعاً لكنه رفض تدوينه أو تداوله في وسائل الإعلام, وهذا مفهوم لكنه غير معقول.

ومن الرافضين من تأسس رفضه على اعتبارات عنصرية فهو يحتقر الشعر النبطي لاحتقاره مجتمعه الخاص, على اعتبار أن «الأدب مرتبط بالثقافة ارتباطاً وثيقاً وثابتاً» وهذا بالطبع تصور يذوب أمام الواقع, فالثقافة ليست شرطاً من شروط كتابة الشعر, شُذّاذ العرب ولصوصهم الشعراء - مثلاً - لا علاقة لهم بالثقافة, الثقافة تدعم الشاعرية لكنها لا تصنع الموهبة.

ومنهم من رفضه لرفض المثقفين له, أي كما يقول المثل العامي (مع الخيل ياشقرا) لأنه يجد في نفسه بتبعيته هذه نوعاً من الارتقاء في الشخصية!

وبعد..

الشعر النبطي شعر عامي محلي إقليمي لا يمكن أن يتجاوز مكانته ولو أريد له ذلك, فهو لا يملك من المؤهلات -اللغوية تحديداً- ما يرتقي به لأن يزاحم الفصيح في الجماهيرية, فالفصحى شمس أدب العرب واللهجات كواكب تدور حولها, وها هو اليوم وقد فتحت له المنابر الأرضية والسماوية واعتني به اعتناءً كبيراً, لم يتجاوز موقعه. بل أريد له أن يكون «فكراً» لكنه لم يرتق لأن يكون كذلك, والمهتمون به لا تعنيهم الدراسات بقدر ما يعنيهم الإبداع والجمال.

وإذا كان الشعر النبطي عامياً محلياً فإنه شعر مكتمل الشروط, وفيه من الفن وبواعث الجمال الأدبي ما في الفصيح, فهو سليله كما يراه العارفون به كالمرحوم ابن خميس وغيره. وتشوّهُ لغته نتيجة طبيعية لتشوهها في حديث الناطقين بها, ولو صح نفي الشعر النبطي من مدينة الأدب لفساد لغته فقط لصح -جدلاً- أن ننفي العروبة عن العرب بعد فشو اللحن فيهم وابتعادهم عن الفصحى منذ أكثر من عشرة قرون.

الشعر عند عرب الجزيرة مظهر من مظاهر حياتهم لا يستطيعون الانفكاك عنه, ارتبط في ذهنيَّتهم وتكوينهم العقلي, فصار جزءًا من شخصيتهم, وإذا كان الشعر النبطي قد كثر هذه الأيام وعم وانتشر فإن انتشاره لا يعدو كونه زوبعة في فنجان كما يقولون, فهو يدور في فلك واحد ويُتداول في منابر لا يزورها إلا مُريدوه وهم قلة قياسا على الأمة, وهي كثرة عددية لا نوعية.

أما تأثيره في النفوس فلا يُداني تأثير الشعر الفصيح فيها, حتى لدى جماهيره أنفسهم, والحق أن ولاء الجميع للفصيح مقدم على الولاء للنبطي, والسبب أن للفصيح مكانة روحية مرتبطة بدينهم, وأهل الجزيرة من أشد أمم الأرض حمية وإخلاصا وغيرة لدينهم.

الشعر النبطي ضرورة أفرزها الواقع والحاجة الاجتماعية والنفسية لإنسان الجزيرة الذي لا تزال طبيعته بدوية -وإن تحضر- أنانية ميّالة إلى الغنائية في التعبير عن المشاعر.. وإذا كنا -جميعاً- نتوق مخلصين إلى أن يكون أدبنا كله فصيحا فإننا لا نستطيع أن ننبذ الشعر النبطي المعبر عن طبيعتنا وحياتنا وقيمنا كما نعيشها اليوم, فهو إذن شر لا بد منه!

alkadi61@hotmail.com

تويتر alkadi61@

مقالات أخرى للكاتب