Monday 16/12/2013 Issue 15054 الأثنين 13 صفر 1435 العدد
16-12-2013

«لن تكتمل فرحتي باستقلال جنوب إفريقيا إلا باستقلال فلسطين» نيلسون مانديلا

لا بد من مقدمة طويلة للمقارنة بين عقليتين مختلفتين لكي يتضح الفرق النوعي. أنا طبيب سعودي، من أبناء القصيم تحديدا، درست العلوم الطبية في دولة غربية ديانة أهلها النصرانية، لكنهم لا يلزمون أحدا بمعتقدهم ولا يضايقونه في ممارسة معتقده، بل يسهلون ذلك له عند الحاجة.

تعلمت جس النبض والتنصت على القلب وتحسس أعضاء الجسد وقياس ضغط الدم وسحب العينات وحقن الأدوية والمحاليل وتركيب القساطر، تعلمت كل هذه الممارسات التطبيقية على أجساد أولئك الناس وأنا الغريب عندهم، أطفالا وكبارا، صبايا وعجائز، شبانا وطاعنين في السن. تدربت لإتقان هذه المهارات على أجسادهم مثلما يتدرب زملائي في المهنة من أبنائهم، ولم يحرموني يوما من تطبيق عملي مهما كانت خصوصيته، بحجة التحرج من إشراك مخالف لهم مختلف عنهم في أخص خصوصياتهم الصحية والجسدية والاجتماعية، وهذه الأخيرة جزء أساسي من استجواب المريض قبل الفحص عليه.

في أعياد المسلمين كانوا يبعدون التماثيل والصلبان من أحد أجزاء الكنيسة ليؤدي فيه المسلمون صلواتهم ويتعبدون بطقوس دينهم الإسلامي.

لم يحاول واحد منهم يوما، لا من سكنت عنده مستأجرا ولا من تتلمذت عليه كدارس طب، أن يدخل معي في نقاش مفاصلة أو مقارنة بين ديني ودينه، وبقي الوضع هكذا لهم دينهم ولي ديني، حتى ودعتهم شاكرا وفي جيبي شهادة الاستشارية في الطب. في الامتحانات التحصيلية كانوا يعدلون في التقدير بطريقة لا أحسبنا هنا سوف نصل إليها مع أبنائنا الطلبة قبل مرور ألف عام.

هذا بخصوص الطريقة التي يتعامل بها النصارى مع المخالطين لهم من المجتمعات المختلفة عنهم، مما يحتم سؤالا معكوسا عن كيفية تعاملنا نحن معهم وبأي عقلية.

حسب اجتهادات الفقه السائد محليا عندنا، لا يوجد إنسان يستحق التكريم والتعاطف والترحم ممن هم واقعون خارج هذا الفقه، حتى لو كان إنسانا صالحا متسامحا كريم الخصال مثل نيلسون مانديلا، أو كطبيب عالم حاز على جائزة الملك فيصل العالمية في طب الأطفال المعوقين.

حتى المختلف في بعض الجزئيات من نفس البيئة الصحراوية مع هذا الفقه لا يسلم من التصنيف والاستبعاد ، إما بحجة التشكيك في إيمانه أو بتهمة التغريب والخروج على الجماعة، عشوائيا وبدون أدلة.

في بقية العالم بكامله يعرف هذا الفقه بأنه أولا صحراوي طويل عهد بالانعزال عن التعايش البشري، وبأنه ثانيا انفعالي حدي أهم أسلحته الاستعداء والتكفير وأضعفها الحوار والجدال بالتي هي أحسن. بالرغم من كل هذا الالتحاف المذهبي فإن وسائل عيشه المادية بما فيها الأكل والحركة والتواصل والاستطباب كلها مستوردة من ذلك الآخر المختلف، الذي يلعنه تعبدا ويبيع له ثروات أرضه ثم يشتري منه حتى ملابس زوجاته وبناته.

من الخصوصيات التي يصعب فهمها لهذا الفقه عدم تشجيع أتباعه على الدخول في جدال أو حوار مع المختلف أو المخالف خشية عليه من الانزلاق الفكري والانحراف العقدي، أكثر مما يؤمل منهم القدرة على إقناع الطرف الآخر بما لديهم من أدلة وبراهين.

بناء على هذه الخصوصية نجد أن الذين تنطبق عليهم مواصفات الصلاح حسب المفهوم الفقهي السائد في البيئة السعودية قلائل. الباحث الحاصل على جائزة الملك فيصل في علوم الطب والدواء، والمفكر الذي حصل على جائزة نوبل لنشر السلام والتعايش بين الأمم، والعالم الزراعي الذي استنبت محصولا مقاوما للآفات الزراعية في المناطق الفقيرة، كل هذه النوعيات من البشر المحبين لخير الإنسان لا تنطبق عليهم مواصفات الصلاح الموجبة للتكريم والعرفان والترحم عند انتقالهم للدار الآخرة.

الأكيد أن الحساب الأخير على صالع العمل وسيئه مرده إلى الخالق القدير الغفور الرحيم القائل في كتابه: يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره».

المحاسبة على صالح العمل وسيئه بعد الموت مردها إلى الله، وليس إلى قناعات نشأت في منطقة صحراوية من شبه جزيرة العرب لم تكن تتواصل مع العالم إلا عند هروب أهلها من المجاعات والسلب والنهب والغزوات المتبادلة.

وعودة إلى الإنسان المناضل الكبير نيلسون مانديلا، الذي غادر الحياة الدنيا قبل أيام ونعاه كل العالم باستثناء غلاة التكفيريين. هذا الرجل اختار كرامة الحرية والاصطفاف مع المدافعين عنها من السود والسمر والبيض، مسلمين ونصارى ويهود وهندوس، وقدم من التضحيات ما لا يستطيعه سوى أولو العزم من قلائل البشر حتى انتصر. رجل بهذا الحجم والمعنى لن يعجز فكره عن الانتصار أيضا على أعداء التعايش المتبقين.

ولي أمر هذه البلاد الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله قدم التعزية باسم حكومته وشعبه إلى حكومة وشعب جنوب إفريقيا في وفاة البطل القومي والعالمي مانديلا.

هل يستثني التكفيريون أنفسهم من هذه التعزية، وهل يستطيعون الجزم لأنفسهم بالقرب أو البعد من رحمة الله بعد الوفاة؟.

وسؤال أخير: هذا الفرق الهائل في التعامل مع الآخر والقدرة على التعايش سوف يصب في النهاية لصالح من؟ احسبوها بالمنطق وليس بالعاطفة.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب