Friday 20/12/2013 Issue 15058 الجمعة 17 صفر 1435 العدد

بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية وبرعاية مدير الجامعة د.الفيصل يحاضر عن قيمة المكان عند رواة الشعر العربي

د.الفيصل: الجهل بالأماكن وبلدان القبائل يوقع الباحث في مزالق خطيرة

الجزيرة - الرياض / تصوير - فتحي كالي:

ألقى الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل رائد تحقيق الشعر القديم والإسلامي بشبه الجزيرة العربية يوم الأربعاء الماضي بالقاعة الكبرى بمقر كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية محاضرة بعنوان: (قيمة المكان عند رواة الشعر العربي)، نظمتها كلية اللغة العربية بالتعاون مع مركز دراسات اللغة العربية وآدابها، وقدم المحاضرة وأدارها الدكتور حسن بن أحمد النعمي المدير التنفيذي لمركز دراسات اللغة العربية وآدابها، برعاية معالي مدير جامعة الإمام و بحضور قيادات جامعة الإمام محمد بن سعود، وعدد من الأكاديميين والمثقفين والمهتمين، وذلك ضمن البرنامج الثقافي الخاص الذي أعدته كلية اللغة العربية للاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية. وبعد أن قدم د.النعمي للمحاضرة والمحاضر، ألقى الدكتور الفيصل المحاضرة وقال فيها: ((الأدب والتاريخ والجغرافيا ثلاثة علوم مترابطة، فالمكان ينطق الشاعر بالقصيدة الجيدة، ويحدد موضع المعركة التي تأخذ حيزاً في التاريخ وكتب البلدان تتوافر فيها العلوم الثلاثة مثل: معجم ما استعجم للبكري ومعجم البلدان لياقوت الحموي، وآثار البلاد وأخبار العباد للقزوييني، والمنازل والديار لأسامة بن منقذ، وغيرها، فهذه الكتب كتب جغرافيا، ومع ذلك فهي تحوي مادة أدبية، فمؤلفوها يصنعون بتحريرهم مادة نثرية، ومعجم ما استعجم يشهد لمؤلفه أبي عبيد البكري بطول الباع في الأدب، ثم إن سير الرجال، وتاريخ المدن التي دونها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان مادة تاريخية جيدة، فالتلازم بين هذه العلوم الثلاثة مشاهد في كتب الجغرافيا أكثر من كتب الأدب والتاريخ. وبما أنني وقفت على كثير من الأماكن التي وردت في الشعر العربي القديم ومنها: طخفة، سواج، صارة، القنان، سلمى، الجواء، الدخول، حومل، سقط اللوى، غول، الريان، فيد، محجر، فرده، رخام، التلبوت، الريب، تبراك، جبل التوباء، عماية، قرقرى، قساس، المروت، النير، البياض، تبالة، تمرة، رنية، القهر، قرية، أبان، ثادق، الحاجر، ذات الإصدا، ذو حسى، الشربة، ضارج، ضلفع، قلهى، قاع بولان، منعج، ناظرة، النقرة، الهباءة، اليعمرية، أراط، أوال، برقا نطاع، برقه ثهمد تبالة، تيماء، ثهلان، الحاجر، حائل، الحنو، الخال، خزاز، ذو العشيرة، روض القطا، شرج، ضرغد، طمية، عالج، عردة، عين محلم، قطن، كتيفة، كثيب الغينة، اللصافة، مأسل، قران، منى، النباج، نمار، وجرة، بما أنني وقفت علىهذه الأماكن وغيرها من المواضع والجبال والأودية والرمال، فقد أصبح لدي قناعات بأن الأماكن أسهمت في جلب عواطف الشعراء، فهي الموحية للشعراء بقصائدهم، وهي الناقلة للقصيدة إلى أفواه الرواة، ولذلك فإن القصيدة التي تحوي أماكن وردت في أشعار الكبار تحظى بالرواية أكثر من غيرها، فإذا استعرضنا المجموعات الشعرية مثل المعلقات والمفضليات، والأصمعيات، وكتب الحماسة، وكتاب الاختيارين للأخفش الأصغر لحظنا فيهما تقديم الشعر الذي وردت فيه أماكن مثل: طخفة، غول، صارة، القنان، عالج، الجواء، قطن، يذبل، عمايه، الدخول، حومل، الحزن، ثهلان، الرس، الشريف، فالأماكن تنطق الشعراء بالشعر الجيد، يقول امرؤ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوي بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمال

ويقول طرفة:

لخولة أطلال برمة ثهمد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

ويقول عنترة:

يا دار عبله بالجواء تكلمي

وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي

فذكر المكان يبعث العاطفة فتصنع الغزل ومن ثم تجود بالشعر الجيد، يقول الطفيل الغنوي:

بالعفر دار من جميلة هيجت

سوالف حب في فؤادك منصب

فبعد ذكر الدار التي بالعفر استرسل في الغزل فقال:

ترى العين ما تهوى وفيها زيادة

من اليمن، إذ تبدو، وملهى لملعب

وبعد الغزل جاء الشعر القومي الذي يمثل العزة والشرف والرفعة حيث حياة البادية في فضائها الواسع وبيوتها المشرعة الأبواب، يقول طفيل:

وبيت تهب الريح في حجراته

بأرض فضاء بابه لم يحجب

سماوته أسمال برد محبر وأطنابه

وصهوته من أتحمي معصب

أرسان جرد كأنها

صدور القنا من بادئ ومعقب

وتحقيق الآثار والأماكن الواردة في الشعر القديم يعتمد على ثلاثة أمور في نظري، الأمر الأول أن الشعر يفسر بعضه بعضاً، الأمر الثاني الاستدلال بالمعاجم القديمة، الأمر الثالث المعرفة الشخصية والرغبة، ففيما يتعلق بالأمر الأول أن المكان (جبل، وادي، رمل، بلدة) يذكره أكثر من شاعر، فهذا يقرنه بما يجاوره، وذاك يقرنه بقبيلة أو بلده وآخر يذكره مع غيره من أماكن قبيلة معينة، فيتعين المكان إذا كان الباحث ملماً بمساكن القبائل العربية، مطلعاً على سير الشعراء وبلدانهم وتنقلاتهم، ومطلعاً على تاريخ الحروب، وأين وقعت، وكيف امتدت إلى أماكن أخرى، فمعرفة مساكن القبائل العربية، تساعد كثيراً على تحديد المكان وبالتالي تساعد على فهم الشعر، وكثير من الأشعار حددت مساكن القبائل، فهذا عنترة يذكر بلاد عبس في قوله:

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

وعمى صباحاً دار عبلة واسلمي

ويقول:

وتحل عبلة بالجواء وأهلنا

بالحزن فالصمان فالمثلم

فالجواء بلاد عبس، وهذا الأخنس بن شهاب التغلبي يحدد مساكن كثير من القبائل فيقول:

لكل أناس من معد عمارة

عروض إليها يلجؤون وجانب

لكيز لها البحران والسيف كله

وإن يأتها بأس من الهند كارب

تطاير عن أعجاز حوش كأنها

جهام أراق ماءه فهو آيب

وبكر لها ظهر العراق وإن تشأ

يحل دونها من اليمامة حاجب

وصارت تميم بين قف ورملة

لها من حبال منتاى ومذاهب

وكلب لها خبت فرملة عالج

إلى الحرة الرجلاء حيث تحارب

وغسان حي عزهم في سواهم

يجالد عنهم مقنب وكتائب

وبهراء حي قد علمنا مكانهم

لهم شرك حول الرصافة لاحب

وغارت إياد في السواد ودونها

برازيق عجم تبتغي من تضارب

ولخم ملوك الناس يجبى إليهم

إذ قال منهم قائل فهو واجب

ونحن أناس لا حجار بأرضنا

مع الغيث ما نلقى ومن هو غائب

وهذا عمرو بن كلثوم يشير إلى مساكن قبيلتين من أعداء تغلب هما قضاعة وتميم، فقضاعة في الشمال الغربي من نجد وتميم في شرقي نجد، يقول:

متى ننقل إلى قوم رحانا

يكونوا في اللقاء لها طحينا

يكون ثفالها شرقي نجد

ولهوتها قضاعة أجمعينا

الأمر الثاني مما يساعد في معرفة المكان وتحديده الإلمام بما جاء في معاجم البلدان، ومنها معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري ومعجم البلدان لياقوت الحموي، وغيرهما من معاجم البلدان، وفي معاجم اللغة كثير من الفوائد التي ترشد إلى تحديد المكان، بالإضافة إلى كتب التاريخ وكتب الأدب عامة، فالثقافة التاريخية والبلدانية والأدبية كل لا يتجزأ في الاسترشاد بها في معرفة الأماكن وتحديدها.

والأمر الثالث المعرفة الشخصية والرغبة، وهذه المعرفة منوطة بالتنقل في الجزيرة العربية، والوقوف على جبالها وأوديتها ورمالها ومدنها وقراها، فالزيارات الميدانية تفتح الطريق للباحث، وتنير له السبيل فإذا قرأنا بيت الأعشى:

قالوا نمار فبطن الخال جادهما

فالعسجدية فالأبلاء فالرجل

وجدنا اسم وادي (نمار) لم يتغير وهو وادٍ من روافد وادي حنيفة وقد امتدت إليه مدينة الرياض، وبطن الخال لا يعرف باسمه الآن والعسجدية في السلي والأبلاء، مواضع في شمال الرياض، والرجل مواضع قريبة من الأبلاء.

والجهل بالأماكن وبلدان القبائل يوقع الباحث في مزالق لأن الجهل بالمكان يمتد إلى الجهل بلغة المكان، فالرواة الذين يحرصون على رواية القصائد المحتوية على أعلام معروفة من جبال وأودية ورمال ودارات يعرفون أن سكان تلك البلاد لا ينطقون إلا بلغة سليمة، يتوافر فيها كمال اللغة وقوتها، فالذين رووا الشعر أو دونوه من أمثال الفرزدق وأبي عمرو بن العلاء والأصمعي وأبي عبيدة والمفضل الضبي وأبي عمرو الشيباني، والسكري والمبرد والأخفش الأصغر نلحظ في قصائدهم التي رووها أو جمعوها توافر الأعلام المشهورة في الجزيرة العربية، فالفرزدق من أوائل الرواة وإن كانت شهرته في الشعر وليست الرواية، إلا أنه يصرح بروايته لعدد كبير من الشعراء ينتمون إلى قبائل عدة هم: النابغة الذبياني والنابغة الجعدي ونابغة بني شيبان وامرؤ القيس والمخبل السعدي والحطيئة وعلقمة الفحل وطرفة ومهلهل ابن ربيعة وأعشى قيس وأعشى باهلة ومرقش الأكبر وأبو الطمحان القيني وعبيد بن الأبرص الأسدي وأبو دؤاد الإيادي وحسان بن ثابت ولبيد بن ربيعة وبشر بن أبي خازم الأسدي وأوس بن حجر والحارثي النجاشي (قيس بن عمرو بن مالك)، يقول الفرزدق في الإشارة إلى روايته لأولئك الشعراء:

وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا

وأبو يزيد وذو القروح وجرول

والفحل علقمة الذي كانت له

حلل الملوك كلامه لا ينحل

وأخو بني قيس وهن قتلنه

ومهلهل الشعراء ذاك الأول

والأعشيان كلاهما ومرقش

وأخو قضاعة قوله يتمثل

وأخو بني أسد عبيد إذ مضى

وأبو دؤاد قوله يتنحل

وابنا أبي سلمى زهير وابنه

وابن الفريعة حين جد المقول

والجعفري وكان بشر قبله

لي من قصائده الكتاب المجمل

ولقد ورثت لآل أوس منطقا

كالسم خالط جانبيه الحنظل

والحارثي أخو الحماس ورثته

صدعاً كما صدع الصفاة المعول

ومن أشهر الباحثين الذين وقعوا في مزالق بسبب الجهل بالأماكن ومن ثم لغة الأماكن طه حسين، فقد أنكر شعر شعراء القبائل اليمنية لأنها تسكن اليمن وغاب عنه أن قبيلة كندة لها ثلاث ممالك في نجد هي:

1 - مملكة كندة في عقيق تمرة، المعروف الآن بوادي الدواسر.

2 - مملكة أكيدر في دومة الجندل.

3 - مملكة حجر والد امرئ القيس في وسط نجد.

وأقدم هذه الممالك مملكة عقيق تمرة التي استمرت من القرن الأول الميلادي إلى القرن الخامس الميلادي، وهذه المملكة قوية بدليل غزو دولة سبأ وذي ريدان لتلك الدولة، وقد اعتورها الخصوم في أيام ضعفها، فقد رغب بنو عقيل في إزاحتها عن العقيق، فطلبوا المساعدة من قبائل كعب قشير وجعدة وعامر عامة، فنجحت تلك القبائل في هدفها وانتصرت على قبيلة كندة، وسجل النصر النابغة الجعدي في قصيدة منها قوله:

وكندة كانت بالعقيق مقيمة

ونهد، فكلاً قد طحرناه مطحرا

وإزاحة كندة عن العقيق قبل الإسلام، فالنابغة الجعدي من المعمرين ومملكة حجر زالت وانتهى أمرها قبل الإسلام عندما انتصرت قبائل بني أسد وغطفان على حجر والد امرئ القيس.

وقد بقيت مملكة أكيدر حتى انتصر عليها خالد بن الوليد رضي الله عنه وهذا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يثبت بقاء تلك المملكة الكندية إلى زمن انتشار الإسلام: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها إن لنا الضاحية من الضحل والبور، والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلام والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر من المسلمين.

وبما أن تعيين المكان عمل جغرافي، والحديث عما جرى في المكان من أحداث وخطب وشعر وأمثال وحكم ومنافرات ومفاخرات عمل أدبي، لأنه من تاريخ الأدب، بما أن الأمر كذلك فالتلازم بين الجغرافيا والأدب ظاهر وجلي، ثم إن الأداة التي تذكر المكان والأحداث هي اللغة، فلكل مكان لغة، ومن هنا فضل الرواة لغة مكان على مكان آخر، فلغة الأماكن النجدية هي المفضلة للرواة في القرن الثاني الهجري، لأن الأماكن الحجازية والعراقية في القرن الثاني قد كثر فيها اختلاط الأجناس البشرية من فرس وترك وصقالبة وغيرهم، ممن يفد إلى الحجاز للحج ويفد إلى العراق لطلب الرزق والعمل، فرحلات الأصمعي اتجهت إلى الأماكن التي وردت في الأشعار الجاهلية، وما زال كثير من سكان تلك البلاد يقيمون فيها، وقد تقدم الأصمعي على غيره من الرواة عن طريق سماع اللغة والشعر من الأماكن التي صدر منها الشعر الأول، وأتقن الأصمعي أنساب الخيل وتسمية أجزاء الفرس عن طريق السماع مباشرة من سكان المكان، فأتقن لغة المكان، وتقدم على أبي عبيدة عن طريق رحلاته، فلغة الأصمعي التي حصلها عن طريق رحلاته يمكن أن نطلق عليها (اللغة المكانية) أو اللغة الجغرافية، فأبو عبيدة مع فضله وعلمه لم يتقن لغة المكان كما أتقنها الأصمعي.

والمكان يحدد موضع المعركة كما في قول الحارث بن حلزة اليشكري:

إن نبشتم ما بين ملحة فالصا

قب فيه الأموات والأحياء

فالحارث يخاطب تغلب ويقول: انتصرنا عليكم في ذلك المكان الواقع بين الهضبة الشهباء الواقعة في شرقي بيشة، وجبل الصاقب الأحمر القريب من الدخول.

ومعرفة الأماكن وارتباطها ببعضها تسهم في كتابة تاريخ الأدب، فأيام العرب مرتبطة بتلك المواضع، والأدب عامة من قصائد وأمثال وحكم وقصص رويت عن ذلك اليوم، وسير القادة والأبطال والقتلى مرتبطة بالمكان الذي وقعت فيه المعركة، فالمكان ليس بمعزل عما جرى فيه، بل هو القاعدة التي تفرعت عنها علوم الأدب بأداتها اللغة العربية، فإذا كتبنا عن القائد الشاعر القتيل عبد يغوث ابن وقاص الحارثي وعن قصيدته المشهورة في الأدب العربي فإننا لا نستطيع أن نغفل المكان الذي وقعت فيه المعركة وهزيمة القائد وأسره وهو وادي الكلاب المنحدر من جبل ثهلان بالقرب من بلدة الشعراء القريبة من الدوادمي في وسط نجد، وقد ذكر الشاعر الكلاب في قصيدته، يقول:

ألا لا تلوماني، كفى اللوم مابيا

فمالكما في اللوم خير ولا ليا

ألم تعلما أن الملامة نفعها

قليل، وما لومي أخي من شماليا

فيا راكباً إما عرضت فبلغن

نداماي من نجران ألا تلاقيا

جزى الله فومي بالكلاب ملامة

صريحهم ، والآخرين المواليا

وإذا قرأنا بيت عمرو بن كلثوم التغلبي:

ونحن غداة أوقد في خزاز

رفدنا فوق رفد الرافدينا

ووقفنا على شرح البيت وقصة إيقاد النار، وأنها اشتعلت من أجل يوم عظيم من أيام العرب في الجاهلية وذلك اليوم بين عرب الجنوب وعرب الشمال، لم يكتمل الشرح إلا بمعرفة موقع جبل خزاز، فهو جبل في قلب نجد يطل على بلدة دخنة وأقرب مدينة له مدينة الرس في القصيم.

ونقرأ الأشعار في حرب البسوس فتذكر الأمكنة وما جرى فيها، فيتطلع القارئ إلى المكان أين يقع، وكيف جرت المعركة، يقول مهلهل بن ربيعة:

فإن يك بالذنائب طال ليلي

فقد أبكى من الليل القصير

ثم يقول:

وإني قد تركت بواردات

بجيراً في دم مثل العبير

فالذنائب أكمات في غربي حمى ضرية، وواردات موضع في شرقي حمى ضرية، ومسرح حرب البسوس ما بين جبل النير وحمى ضرية، ونقرأ أشعار حرب داحس والغبراء المشتملة على الأمكنة من مثل قول عمرو بن الأسلع العبسي.

إن السماء وإن الأرض شاهدة

والله يشهد والإنسان والبلد

أني جزيت بني بدر بسعيهم

على الهباءة قتلاً ما له قود

لما التقينا على أرجاء جمتها

والمشرفية في أيماننا تقد

علوته بحسام ثم قلت له

خذها حذيف فأنت السيد الصمد

ويقول الحارث بن زهير العبسي:

تركت على الهباءة غير فخر

حذيفة حوله قصد العوالي

فالهباءة في اللغة البئر القديمة المندثرة بحيث إنها تحولت إلى حفرة ومستنقع ماء، ولا زالت الكلمة مستعملة في نجد وقد أثبتها في كتابي (من غريب الألفاظ) والهباءة، موقع المعركة في غربي القصيم قريبة من النقرة، ومسرح حرب داحس والغبراء في أرض الشربة في الشمال الغربي من نجد، ومعظم المعارك التي جرت بين عبس وذبيان وقعت بين النقرة وجبل قطن.

وللأماكن أثر في تحليل النص الأدبي، وقد التفت إلى ذلك طه حسين في حديث الأربعاء فربط الأماكن بالظعائن في تحليل قصيدة زهير بن أبي سلمى، ومن الأبيات التي استثمر فيها الأماكن قول زهير:

تبصر خليلي هل ترى من ظعائن

تحملن بالعلياء من فوق جرثم

جعلن القنان عن يمين وحزنه

وكم بالقنان من حل ومحرم

علون بأنماط عتاق وكلة

وراد حواشيها مشاكهة الدم

ظهرن من السوبان ثم جزعنه

على كل قيني قشيب ومفام

ووركن في السوبان يعلون متنه

عليهن دل الناعم المتنعم

يكرن بكوراً واستحرن بسحرة

فهن ووادي الرس كاليد للفم

يقول طه حسين: «أرأيت كيف رسم لأحبائه الطريق التي سلكوها أو كيف رافق أحباءه في الطريق التي سلكوها، يتبعهم بطرفه أولاً فيصف ركبهم وقد بعد عنهم، ثم يسايرهم من قريب، فيصفهم وصف المرافق لهم» والعلياء الأرض المرتفعة وجرثم ماء في الجواء في شمالي نجد، فالظعائن سرن من تلك الأرض من الشمال إلى الجنوب بحذاء جبل القنان الواقع في الشمال الغربي من القصيم، والظعائن تسير في السهل فالحزن عن يمينها أايضاً، ولما اعترضها وادي السوبان المنحدر من جبل القنان والمتجه إلى الجواء في الناحية الشرقية اجتزنه وقطعنه، وواصلن السير باتجاه وادي الرس الواقع في غربي القصيم من أرض نجد.

وترتبط الأماكن بشيم البرق، فتنتظم للشاعر في رؤية واضحة، يجلوها لمعان البرق، وجنوح السحاب إلى الأرض، فيغتبط الشاعر باخضرار الأماكن التي جادها الغيث، بحيث ترى الأرض في زينتها بعد أيام قليلة من شيم البرق، يقول امرؤ القيس:

قعدت له، وصحبتي بين ضارج

وبين العذيب، بعد ما متأمل

علا قطناً بالشيم أيمن صوبه

وأيسره على الستار فيذبل

فأضحى يسح الماء حول كتيفة

يكب على الأذقان دوح الكنهل

ومر علي القنان من نفيانه

فأنزل منه العصم من كل منزل

وتيماء لم يترك بها جذع نخلة

ولا أجماً إلا مشيداً بجند

كأن ثيراً في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمل

كأن ذرى رأس المجيمر غدوة

من السيل والغثاء فلكة مغزل

وألقى بصحراء الغبيط بعاعه

نزول اليماني ذي العياب المحمل

كأن مكاكي الجواء غدية

صبحن سلافاً من رحيق مفلفل

فضارج والعذيب في غربي بريدة فامرؤ القيس يشيم السحاب ووجهه للغرب، وقد انتظمت الأماكن التي ذكرها من جبل قطن على يمين امرئ القيس إلى جبل يذبل على يسار امرئ القيس، فهي منظومة من الشمال إلى الجنوب، فقطن جبل في الشمال الغربي من نجد والستار جبل في حمى ضرية، ويذبل جبل في جنوبي نجد ويعرف اليوم بصبحاء، وكتيفة: جبل في حمى ضرية قريب من الستار، والقنان جبل لبني أسد في بلاد القصيم من أرض نجد، وتيماء هضبة قريبة من جبل ثهلان في جنوبي نجد، وثبير في غربي القصيم، ويروى (أباناً) وأبان في القصيم، والمجيمر: جبل صغير قريب من طمية الواقعة في غربي القصيم، وصحراء الغبيط في الناحية الجنوبية الغربية من القصيم، والجواء في شمال القصيم.

ويقول الأعشى:

بل هل ترى عارضاً قد بتُّ أرمقه

كأنما البرق في حافاته الشعل

له رداف، وجوز مفأم عمل

منطق بسجال الماء متصل

لم يلهني اللهو عنه حين ارقبه

ولا اللذاذة من كأس ولا شغل

فقلت للشرب في درني وقد ثملوا

شيموا، وكيف يشيم الشارب

قالوا نمار، فبطن الخال جادهما

الثمل فالعسجدية، فالأبلاء فالرجل

والسفح يجري، فخنزير، فبرقته

حتى تدافع منه الربو فالحبل

حتى تحمل منه الماء تكلفة

روض القطا فكثيب الغينة السهل

هذه الأماكن في وجدان الشاعر، ومرتبطة بأمانيه لها بالخصب والنماء عن طريق أمطار تغمرها، فشيم البرق أمل من الشاعر لمواضع يعرفها: فهي في ذاكرته، فالارتباط بين هذه المواضع وشيم البرق وضع تعانقاً وتكاتفاً بين الأدب المتمثل في الخيال والأماني واللغة الراقية، والأسلوب المنتظم في قوة وترابط وبين الجغرافيا المتمثلة في سرد المواضع الواقعة في اليمامة، فدرني: موضع في اليمامة وقيل هي الخضرمة قرية صغيرة بين الرياض ومنفوحة، وتعرف بالمنفوحي قبل إزالتها، وعمارة موضعها بالمباني السكنية الواقعة في منفوحة جنوبي الرياض، ونمار واد من روافد وادي حنيفة، وهو من ضمن مدينة الرياض الآن (1435هـ) وبطن الخال يعرف الآن بوادي لبن، وهو من ضمن مدينة الرياض، والعسجدية موضع في السلي من ضمن مدينة الرياض، والأبلاء: أبلى: موضع في قران في اليمامة، والرجل: رجلة الشعور ورجلة أخرى: موضعان باليمامة، وخنزير: جبل في شرقي الرياض ويعرف الآن باسم العان والسفح أسفل خنزير، والحبل: قارات متقاودة شمالي حجر، وهي من ضمن الرياض الآن، وروض القطا: يعرف الآن بروضة الجنادرية، وكثيب الغينة يعرف اليوم بـ (عريق بنبان) وجزء منه من ضمن مطار الرياض.

وعن طريق معرفة الأماكن والوقوف عليها تمكنا من معرفة طريق امرئ القيس في رحلته من بلاد بني أسد إلى دمون في حضرموت فهو ينطلق من بلاد القصيم في الشمال الشرقي من نجد حيث يقيم والده فيما بين شرج وملحوب لأن السكن في خيام، فهو ينطلق من ذلك المكان إلى منعج فعماية، فيذبل، فالدخول، فسقط اللوى، فدارة جلجل، فماسل، فقرية، فالقهر، فجبل خبان، فشرورة فدمون.

وتخدم الأماكن المصورة الأفلام السينمائة والتلفزيونية فإذا عرض مسلسل عن حرب البسوس وفيه صورة جبل النير وسفحه الشرقي حيث يوجد قبر كليب وصورة أكمات الذنائب وصورة وادرات وصورة جبل خزاز وغيرها من الأماكن اشرأبت أنفس المشاهدين إلى رؤية تلك الأماكن فاستغلت سياحياً مما يشغل كثيراً من الذين يبحثون عن عمل، وإذا عرض مسلسل عن حرب داحس والغبراء وفيه صورة جبل قطن وبئر الهباءة وكثيب ناظره حيث يوجد قبر عنترة بقربه وغيرها دعمت الأماكن المسلسل، وقد يعرض مسلسل عن حرب عرب الشمال وعرب الجنوب بقرب جبل هزاز الوقع في كبد نجد، فإذا أشعلت نار في أعلى الجبل وصورت مع الجبل فإن ذلك دعم للمسلسل، ومسلسل رحلة امرئ القيس ورفاقه، وتصوير الأماكن التي أشرت إليها سيحظى بالقبول من المشاهد، وهذه إشارة موجزة من استغلال الأماكن في المسلسلات فهي دعم للسياحة والاقتصاد الوطني.

والشعر المشتمل على الأماكن خدم المؤلفين، فصنعوا المعاجم، وحددوا الأماكن، بناءً على استرشادهم بالشعر، وأنه يفسر بعضه بعضاً بالإضافة إلى معرفة مساكن القبائل، فأبوعبيد البكري أندلسي، ولم يعرف أنه زار الجزيرة العربية، ومع ذلك فمعجمه: معجم ما استعجم من أوائل المعاجم، وأدقها في تحديد الأماكن لقد حدد الأودية والجبال والمواضع من خلال الاسترشاد بالشعر، فبقي مؤلفه يسترشد به من جاء بعده، فياقوت الحموي استعان بعمل أبي عبيد البكري في مؤلفه معجم البلدان، ومع أن معجم ياقوت أكثر شمولاً فإن معجم البكري أكثر أدبية عن معجم ياقوت.

إن لدينا أماكن تنتظر التفاتة هيئة السياحة، فمتى أرى هذه الهيئة قد مهدت طريقاً في جبل خزار حتى يصل السائح إلى الصخرة المربعة في أعلى الجبل، والتي أوقدت فيها النار، فإذا وضعت مناظير فوق هذه الصخرة فإن السائح سيرى نجداً على حقيقتها لأنه سيطلق لنظره العنان بمسافة ستين كيلاً من كل اتجاه، فإذا نزل السائح من جبل خزاز قصد منى وغول ورجام ووادي الريان، التي ذكرها لبيد في قوله:

عفت الديار محلها فمقامها

بمنىً تأبد غولها فرجامها

فمدافع الريان عري رسمها

خلقاً كما ضمن الوحي سلامها

والفرزدق من المعجبين بمعلقة لبيد، فقد كان ينصت لمنشد ينشد هذه المعلقة، فعندما سمع الفرزدق قول لبيد:

وجلا السيول عن الطلول كأنها

زبر تجد متونها أقلامها

سجد، فقيل ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: ((إنني أعرف سجدة الشعر كما تعرفون سجدة القرآن)).

وبعد انتهاء المحاضرة تم تكريم د.عبدالعزيز الفيصل من قبل فضيلة وكيل الجامعة الأستاذ الدكتور عبدالله الشثري، وفضيلة وكيل الجامعة لشؤون الطالبات الأستاذ الدكتور أحمد السالم، وعميد كلية اللغة العربية الدكتور أحمد العضيب.