Saturday 21/12/2013 Issue 15059 السبت 18 صفر 1435 العدد
21-12-2013

الأوشابُ السَّلْبِيَّةُ في النَّظَرِيةِ الجَمَاليَّة

بعض كُتبِ التنظير الجمالي يكفيك منها ما تعرضه لك بإيجازٍ وإفصاحٍ معاً من سلوكٍ جماليٍّ في آداب الأمم، وقد يكون هذا العرض أموراً سلبيَّة تخدش معيارية النظرية الجمالية، ولكنك تُفيد منها في تعميق النظرية الجمالية المعيارية، وتسمو بها سُمُواً لا يصل إليه غُبارُ السلبيَّات؛ فتنفي بالتأصيل النقدي كل الأوشاب..

..وتلتقط بمعيار الإنصاف الخُلقي كلَّ عنصرٍ نفيس يقوم عليه بناء نظرية الفن الجمالي؛ ذلك أن كلَّ غُبارٍ من التضليل والهدم لا بُدَّ أن يتضمَّن عناصر كريمةً تُرَوِّج له؛ فمن فروع قيمتي الحق والخير مثلاً الصدق، وهو لا يكون صدقاً إلا إذا لم يكن فيه شائبةٌ من الكذب، والتضليل في الدعوة إلى الباطل والشر.. وأما الكذب فيكون فيه عناصر من الصدق تُروِّج له؛ لأن الكذب قد لا يكون صُراحاً؛ بل يُطعَّم بعناصر معروف صدقُها؛ لتروِّج له.. وهذا السلوك يعتري التنظير لماهية الجمال، ومن الكُتب التي استعرضتْ ظواهر سلبية ضارَّة تسلب من النظرية الجماليةِ عناصرَ كريمةً في بنائها كتابُ (مسائل فلسفة الفن المعاصر)؛ فمِمَّا استعرضه من الظواهر السلبية ظاهرةُ جِبِلَّة الخيال بملكة اللذة غير الجمالية، والعناءُ من أجل أن يحصل على العلم بشيء غامض من أسرار الكون، وهذا العلم ليس علماً بواقعٍ في الحقيقة؛ وإنما يريده (اعتقادَ علمٍ) بشهادة ملكة الخيال تحصل له به لذةٌ جمالية تُنْعِشهُ هو، وتبهر المتلَقِّي؛ لتكون عنده من الحقائق على مدى التراكم الخيالي الذي أفعم ذاكرته؛ وهذا يجعل بناء (النظرية الجمالية) يقوم أوَّلاً على عشق الإدلاج وراء ما هو ضبابي تحجبه رؤيةُ عين أو رؤية بصيرة، ويقوم ثانياً على أن الإحساس الجمالي علم ادِّعائي بما هو محضُ الخيال، ويقوم ثالثاً على أن اللذة الجمالية (آنِيَّةٌ) تذوب منذ أن تحصل.. تجد هذا في مثل هذا التنظير:

1- ما مثل الشاعر الذي يسأل الطبيعة أسرارها إلا كمثل العاشق الذي يعتصر امرأة محترمة.. إنه أول من يشعر بخيبة الأمل إذا ارتوى بسرعة!.. إنه يريد أن يَنْفَسِح الوقت للأمل والشكوى!.. إنه يفضل أن يَـحْـزُر على أن يرى!.. أن يتخيل على أن يكشف!

2- لا بد للشعر من الجهل ونصف الظلام!

3- لا نحب السهول العارية لأنها لا تُخفي عنا شيئاً!

4- لا نحب الخط المستقيم؛ لأننا متى فتحنا أعيننا رأينا ما في نهايته!!!

5- قول جوته: (إنني أبحث عن اللذة حتى إذا حَصَّلْتها أسفتُ على الشهوة)؛ يعني أن لذته الجمالية كانت وهماً؛ لأنها آنية مُؤقتة.

قال أبوعبدالرحمن: في هذا شيء من حقيقة بناء النظرية الجمالية، ولكنهم وضعوه في غير موضعه؛ وذلك من مناهج التضليل.. والمِفْتاح إلى تصفية النظرية الجمالية من الادِّعاء: العلمُ بأن الجمال إحساس وجداني في القلب، وَصِفَةُ هذا الوِجدان أنه لذة وبهجة وسرور ودهشة.. إلى آخر المترادفات؛ ولا يعني هذا سوى المعرفةِ بما هو وِجدانٌ في القلب، والعلمِ بسبب وجوده من العلاقة بين الموضوع الخارجي والوجدان الداخلي، وليس في ذلك علم ولا حكم في هذه اللذة الوجدانية: أهي عن إحساسٍ فردي غيرِ سَوِيٍّ التذَّ بما هو قبيح أو باهتٌ أو شرٌّ أو باطلٌ؛ لأن للقبائح كالمعصية واللامبالاة والعدمية - معنوياً - لذَّةً عند السويين، ومُغَيِّبي ضرورة الفكر، وجاحدي تربية الأديان والمصلحين، ومنكري الحقائق التي جاءت بها الأديان.. ولا تكون النظرية الجمالية معرفة ولا عِلْماً يتعدَّى ما هو في الوجدان من اللذة إلا بجهد من الناقد والمنظِّر؛ فقد لا يرى الإنسان نفسه كما يراها الآخرون، وهذا الجهد النقدي يُـحلِّل أخلاقَ ومواهب وعلم الفرد، كما يُـحلِّل الموضوع الخارجي الذي تأتَّى للفرد الإحساس منه؛ فيتحوَّلُ الإحساسُ الجمالي إلى علمٍ مُنضبط، وهو علمٌ فِئَوِيٌّ يُصَنِّفُ ذوي الإحساس بقيمتي الخير والحق ونقيضيهما إلى حيواني غير مبالٍ، أو إباحيٍّ داعر، أو ضَحْلِ الفكر والثقافة، أو سَوِيٍّ يأسره الحقُّ والخير، أو حصيف الفكر دقيق اللَّماحيَّة؛ فيرسم من صفات الموضوع وأصناف ذوي الإحساس الجمالَ الأعلى والمتوسِّطَ والأدنى وما هو قبح بحت استلذَّه فكرٌ غيرُ سويٍّ وقلبٌ غير تقيٍّ، وما هو برودة باهتة تنفي الجمال ولا تثبت القُبح، وتحكم بأنه لا يُثير أيَّ انفعال كقولك (فلان كريم)؛ فالكرم لذة جمالية، ولكنَّ هذه العبارة النثرية المباشرة لا تثير أي انفعال بجمالٍ أو قبحٍ سوى الحكم بأنها صحيحة نحواً، وأن الخبر كاذب أو صادق؛ فهذا تعبير عن الصحة نحواً؛ فهي حكم من قيمة الحق البحت لا علاقة له بالإثارة الجمالية.. وهكذا تماماً الحكم بأن الخبر صادق أو كاذب.

قال أبوعبدالرحمن: وأما أن اللَّذة الجمالية آنِيَّةٌ ذائبةٌ فذلك تعميم تضليلي اسْتُعْمِلَ في غير موضعه؛ فليست اللذة الجمالية ذائبةً آنيةً بمجرد حصولها؛ وإنما هي على المَدَى لا في الآن بين نازِعَيْ السأمِ والحنين؛ فالنفوس مجبولةٌ على التطلُّع إلى لذائذَ جديدةٍ يُصَنِّفُها الابتكارُ بعد السأم من الإحساس الجمالي القديم، وفي الوقت نفسه فالنفوس مجبولةٌ على حُبِّ الجمال التاريخي الذي طال العهد به؛ فالجميل الجديد (ولكل جديد لذة) أَرْجَأَ الجمالَ القديم ولم يُلْغِه.. ومع التضليل بالآنية عند استخدامها في غير موضعها جاءت المُغالطة من جهة أخرى وهي التمثيل بخبرٍ غير جمالي بدعوى أن اللذة الجمالية كاعتصار امرأة محترمة، فتذوب اللذة منذ فراغ الشهوة، ويكون البديل خيبةَ الأمل؛ فهذا خارجُ محلِّ النزاع من جهتين: هما أن الشهوة التي تنطَفِئُ سريعاً غير الإحساس الجمالي، وأن خيبةَ الأمل نتيجةُ قُبْحٍ خُلُقي بَحْت؛ وبيان ذلك أنه ليس للجمال كلمة اصطلاحية غير مفردة الجيم والميم واللام، ودلالتها اصطلاحية، وليست دلالة مطابَقَة بوضع لغوي؛ بل بعناصرَ مجازيةٍ ذكرت بعضها في كتابي (مبادئ في نظرية الشعر والجمال)، وعلى ضخامة المجلَّد فلا يزال مَدْخَلاً يحتاج مني إلى متابعة الاستيعاب، ولا يحصل تصوُّرُ الجمال إلا بالروابط بين المفردات المرادِفة التي تُـخَلِّص مادته، ومفتاح ذلك في هذه العُجالة أن مبدأَ الجمال بالجمال الطبيعي الذي أظهره الله فيما شاهدناه من كونه الواسع العظيم الذي خلقه، وأن جمال الطبيعة في علاقته بسرور النفس لا يكون بملامسة اليد أو اللسان أو الأنف بشَمِّه أو ملامسة الجسم كاملاً كلذة الجماع بتداخل الأعضاء بدافع الشهوة، وتكون اللذة مشتركة، فليس عندنا موضوع واحد تحصل منه اللذة، ولا إحساس مشاعر واحدة باللذة، بل هما موضوعان كل واحد منهما ذو مشاعر جوَّانية في الالتذاذ من الآخر.. بل الجمال ما حصل في النفس من المشاعر من غير ملامسة الأعضاء، وحواس اللمس الجامعةِ ذوقَ اللسان، وملامسةَ اليد أو كل الأعضاء بالتداخل، أو إدراك الرائحة بالشم؛ لأن كل ما ينفعل به الإحساس الوجداني الجوَّاني بالرؤية أو السماع: هو مما يظلُّ في القلب كالتصوُّر في العقل، تستدركه الحافظة (الذاكرة) بإحضاره، وتعزف عنه بدافع الملل للاستمتاع بمشاعر جديدة ليس من الشرط أن تكون هي الأجمل، وتستعيده بدافع الشوق والحنين.. وعن هذا الجمال اطبيعي يصدر الجمالُ الفني في كل الفنون الجمالية سماعاً ورُؤية بمحاكاة العناصر من الجمال الطبيعي المشاهَد، ثم تُبدِع مَلَكَةُ الخيال التي خلقها الله مولوداً جمالياً مُرَكَّباً مُبتكراً في معرفتنا؛ لأننا لا نعرف له مطابقاً في الوجود، ولا نستطيع أن ننفي وجوده في كون الله المُغيِّب عنَّا، ومن ههنا تكون المتعة الجمالية معرفة وعلماً مُكتسبين بملكة الفكر، مُتَجدِّدين بملكة الخيال في الابتكار، مُتَّسِعَيْن بعمق الثقافة وامتدادها على مدى العمر بلا توقُّف.. ويكونان معياريين بقيمتي الحق والخير بالاستنباط من أحوال النفس ذات الإحساس، ومن العناصر الباعثة في الموضوع بأحكام عقلية وشرعية تربوية تأبى العبث والعدميَّة والمَجَّانية والعدوان والتضليل.. ومصدر القيم كلها قيمةُ الحقِّ، ثم اشتق منها عائدة التجربة العملية الأخلاقية التي تنتج خيراً أو شراً، ثم تَنْتُجُ القيمة الجمالية من الإحساس التلقائي، ثم تكون علماً مُـحَدَّداً متجدِّدَ النماذج بأحكام قيمة الحق وقِيْمَة الخير؛ وبهذا تكون الأحكام الجمالية مشروطة بذكاءِ ودِقَّة ولمَّاحِيَّة وزكاء وذكاء وابتكار قوى العقل ومواهبه، وتكون مشروطة بالعائدة الخيرية على سلوك البشر؛ وبهذا يكون الحكم الجمالي مشروطاً بأسمى ما يُمكن تحصيله من الكمال العقلي وبأسمى ما يمكن تحصيله من جلال الأخلاق.. وأما المدارك بغير السماع والإبصار فتلك شهوة ولذة أو كُرْه وألم مؤقَّتات تزول بزوال الدافع، وهذا هو معنى الانطفاء السريع، ولا علاقة لذلك بنظرية الجمال إلا ما يتصوَّره العقل من طبائع الأشياء ومذاقاتها ونتائجها؛ لتكون مادةً للخيال في إبداع نماذج جميلة.. وأما خيبة الأمل فهي حكم عقلي من قيمة الأخلاق البحتة؛ لأن تلك الشهوةَ وإفرَاغها نزوعٌ غريزي غير مشروع مُعَوَّضٍ بالمشروع، ولأنه سلوك عُدوانيٌّ آثم؛ إذْ (اعتصر امرأة محترمة)؛ فتلك جملة صريحة الدلالة على العدوان بغير حق.. وبقية العناصر التي أسلفْتها لا أستطيع استيعابها الآن، وهي في كُنَّاشتي لأستوعبها إن شاء الله في حال نشاطٍ جِسْمِي وذهني، وحسبي ههنا إجمالٌ عند بعضها؛ فلا أنكر أن الجموح إلى ابتغاء مولود جديد لا ننفي ولا نثبت وجوده بذلك التركيب في الواقع من أهم الحوافز لملكة الخيال إذا كانت المواهب الفطرية والكسبية ثرية، وأن ذلك سلبيٌّ ضار إذا كان هرباً من معايشة الواقع والمساهمة في إصلاح، أو كان عبثاً يهرب به عن عطاءلموهبة الفكرية، وثراء العلم الثقافي والتخصُّصي.. إن الأديب الفنان من مُقوِّماته أن يكون ذا مواهب فطرية من ملكات العقل، ومواهب كسبية من الخبرة ممارسة وعلماً تخصُّصياً وثقافة عامة؛ ليفهم الأعيان كما هي، وليخلِّصها من رواسب شخصيته؛ لأن غايته الأمينة أن يرى الأشياء كما هي عليه في الخارج.. وهو يجب أن يفهم نفسه من خلال الأعيان؛ ليثقلها برواسب شخصيته ولهذا فهو يتخيل الأشياء كما يحلو له أن يرى نفسه من خلالها؟!.. إذن لا حرج في أن تكون رؤيتي في أحيانٍ ضبابية مفعمةً بالأسرار والمجهول.. ثم لِـماذا أكره السهول العارية والخط المستقيم؟.. أليست رسالة الفنان بالقيمة الجمالية أن يفهم الضباب ويكتشف اللغز بروح علمية غير مثقلة برواسب الشخصية؟!.. إذن ذو القيمة الجمالية لا يكره بفهمه الضباب؛ لأنه عامل يريح النفس ويُصفِّيها من انفعالاتها.. ويحب أن يفهمه؛ لأن وجوده منحة من الله، ووجوده مكيَّف بالحس والعقل من أجل فهم ما وراء الضباب، أو تكوين دلالة إيجابية تُثري التعبير.. قال (راما) في الملحمة الهندية: «انظري يا حبيبتي (سيتا) إلى هذه النبتة المتسلقة اللدنة كيف تسترخي بحب على الجذع القوي كما تُرخين أنت ذراعيك على ذراعي تَعِبَة!!».. أترى أن راما لا يعرف سر استرخاء النبتة، وأن علي محمود طه في القمر العاشق لا يجهل أن القمر لا يعشق، والشعراء القدامى عندما غاروا من النسيم الذي يعبث بجدائل مُتَيـِّماتهم لا يجهلون أن النسيم لا يعشق، وأن المتنبي عندما غار على الهودج من التفاتة ناقته لا يجهل أن الناقة لا تعشق الأنثى البشرية عِشْقَ الباءة؟؟.. كلَّا.. إنها دعاوى يجعل فهمَها ضبابياً، وغايتها تجسيد الغَيرة الكريمة، والإقناع بأن الطبيعة ونحن جزء منها تشاركنا في هذه الألفة؛ فتتضاعف سعادتنا، وفي كل هذا سعة التعبير الجمالي، وسعة التعبير قيمة جمالية ابتكارية في نفسها، والله المستعان، وإلى لقاء.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب