Tuesday 24/12/2013 Issue 15062 الثلاثاء 21 صفر 1435 العدد
24-12-2013

أتصْحُو أم فُؤادك غَيْرُ صاحٍ. .؟

وتبقى أوضاع الأمة العربية قابلةً لكل الرزايا، مُشْرعةَ الأبواب لكل الاحتمالات، وكلما نفذت بجلدها من طامة، تلقاها ما هو أَطَم. لقد ثارت الشعوب الأوربية، وأسقطت حكوماتها [الدكتاتورية]، وامتدت معها الفوضى، واستفحل العنف، ولكنها تداركت نفسها، قبل أن يُدقَّ بين فصائِلها [عِطْرُ مَنْشِم].

وبادرت الاستقامة على الطريقة، وتحققت لها أهدافها. فكانت الحرية، والعدل، والمساواة، وتداول السلطة، واحترام الأنظمة، والدساتير، والقوانين، وبناء الذات. وأصبحت المصالح العليا فوق كل اعتبار. يختلفون، ولكنهم لا يدمرون مثمناتهم من أجل مصالحهم الذاتية.

أما العالم العربي فلم تزده الثورات إلا ارتكاساً في وحل الأثرة، و الفوضى، والعنف، والتشرذم. فكان أن تضخمت الطائفيات، واستفحلت العرقيات، وتعددت الانتماءات. وفي ظل هذه الترديات الأمنية، والاقتصادية، وتعارض المصالح، وتخلي دول الاستكبار عن تبني حلول، تُحْقن فيها الدماء، ويُنْزع معها فتيل الفتن، يتحتم على من هو في اللهب أن يحول دون الاحتراق.

ما يجهله المتذمرون، ارتهان عالمنا العربي تحت مجهر المراقبة الدقيقة. ترصد كلماته، وتحسب خطواته، وتُقَوَّم مُبادراته. والوجلون من المارد الإسلامي يتعهدون بأن يظل في قمقمه، خوفاً من عودة تاريخ الفتوح، والحروب الصليبية. هذا الوضع الاستثنائي، لم يكن حاضر أصحاب القرار. واستبعاد مثل هذه المراقبة المقعرة الرؤية، يحول دون تفادي الانتكاسات المتلاحقة.

أحسب أنه لو ترك العالم العربي وشأنه، لنام قرير العين هانيها، كما ينام متروك القطا.

إن على الرعاة الواعين لمثل هذه المنغصات، أن يعرفوا خطورة التقاعس عن المهمات، وضرر التخلي عن الأمة المهيضة الجناح، وضرر الاهتياج الأعزل. ولا سيما أن التجارب أثبتت خطورة الفراغ الدستوري، وتململ الفتن من تحت ركام المشاكل المعلقة.

لقد يئس الأبرياء المُصْطَلون بنار الفتن من الحل السليم، وخافوا من الفتن التي لا تصيب الذين ظلموا منهم خاصة، ومن ثم استفحلت ظاهرة اللجوء السياسي، هرباً من لهيب الحروب الضارية. وأخذ دافع الضرائب في دول الاستكبار انطباعاً سيئا عن الإنسان العربي، بحيث تأكد عنده أن العربي المسلم هو الأشقى، الذي يعشق الفوضى، ويسعى للتدمير، ومن ثم حَمل قادته على عدم المغامرة، والاكتفاء بالمراقبة عن بعد، والتحريش بين طوائفه، وأعراقه، لحفظ التوازن، وإمكان السيطرة. ولو قرئت صحائف [الفردوس المفقود]، وما صاحبها من همجية في القتل، وعنف في التشريد، لتسلل أحفاد الصليبيين من عار ما يقرؤون في تاريخهم، إذ لم يكن العرب بدعاً من الأمم في انبعاث الفتن، واسْتِشْراءِ التوحش. ولست هنا مبرراً، ولكنني مذكر بالتماثل.

لقد بلغ الإحباط ببعض المفكرين المبهورين بالرجل الأبيض حدَّ الإمعان في جلد الذات، والقنوط من لطف الله، و التيئيس من رحمته. حتى قال قائلهم:- [المجتمعات العربية والإسلامية فاقدة للقيم والأخلاق الإنسانية، وأنها نشاز عن البشرية، وأن أفرادها عاجزون عن أن يتفاهموا مع أنفسهم] أو كما قال عفا الله عنه.

وتلك السوداوية لا تليق من مثله، ولا تقبل بحق أمته على إطلاقها، ولكنها تظل مؤشر يأس، ودليل قنوط قاتلين. ولما كانت الخَيْرية باقية في الأمة، وقابلة للانبعاث من جديد، فإن واجب الناصحين التماس الطريق إليها. وليس ينفع في واقع مرير كهذا الذي تعيشه الأمة العربية من المحيط إلى الخليج إلا تماسك الجبهات الداخلية، والتخلي عن الملفات الثانوية الممكن تأجيلها، والحيلولة دون التصعيد الذي يصب في مصالح الأعداء.

على أنه من المسلمات قيام الحياة على الصراع، والاختلاف. ولا يمكن حسم شيء من ذلك. والأمم في أتون صراعها بين خاسر، ورابح، وحيادي، لا له، ولا عليه.

وحين لا نكون قادرين على الربح، فلا أقل من الحياد الإيجابي. وأتعس الأمم من يتربى شبابها على العنف، والدموية، والتهافت على بؤر التوتر، والاهتمام بصغائر الأمور، والتنازع حول الهوامش والثانويات.

والأمة العربية التي أصبحت مضرب المثل في الشقاق، يُتَخطف أنباؤها، ويتهافت البعض منهم على مناطق الحروب، طلباً للشهادة، واستجابة لدعاة الفتنة، على الرغم من تصدي دولهم لهم، وملاحقتهم. وتلك من الظواهر المخيفة. فثقافة العنف، وعشق الصدام، يحولان دون التفكير بما ينفع الناس. والأمة العربية تتوفر على مقومات القوة، في أرضها وإنسانها، ولكن عساكرها الذين أخلوا الثغور، وسكنوا القصور، عُمِّيَت عليهم الأمور,فاستدبروا ذلك، وسعوا إلى الفرقة، وتهافتوا على بؤر التوتر. فأي ثقافة تلك ؟.

إن مصادر التشريع تدعو إلى الوفاق، والدفع بالتي هي أحسن، والقول السديد، والكلم الطيب، والجنوح إلى السلم، وإجارة المشرك، وإبلاغه مأمنه، وتلك من محققات الاستقرار والنماء العالمي، وإشاعة ثقافة الوفاق.

وما نشهده من عنف وحشي، واستخفاف بالدماء المعصومة، والأعرض المحرمة مؤشر جهل بالإسلام ومقاصده، وتَقَوُّل على الله بغير علم. والذين يَزُجُّون بالشباب في أتون الفتن، ويُحَرِّضونهم على القتل العشوائي الهمجي، يحتملون شطرا من الإثم، بل يتحملون الإثم كله. وأخوف ما نخاف منه على مصائرنا تبني هذه الخليقة ممن يعدون أنفسهم علماء شريعة، وفقهاء إفتاء، ورجال أمة، وأهل حل وعقد فيها.

ومن المؤكد أن الوضع العالمي لا يحتمل مزيداً من الإثارة، إنه وضع تذهل فيه المرضعة عما أرضعت. والعقلاء من يرتدون إلى الداخل، ويتمترسون وراء ما أبقته لهم الفتن من قوة: حسية، أو معنوية.

إن دول الاستكبار يهيئون بلعبهم السياسية أجواءً قابلة للاشتعال، تدفع إلى ردود أفعال هوجاء، يضيع معها الأمن، والاستقرار. وواجب العلماء والقادة أن يحولوا دون الوقوع في المصائد، ليفَوِّتوا على الأعداء ما يريدون.

ولقد يكون من أهون الضررين التحريض على التلاحي بالقول، والتناجي بالإثم. ولكن من المرفوض التحريض على قتل النساء، والأطفال، والشيوخ، وتهديم البيوت على ساكنيها، وتدمير البلاد، وتشريد العباد، مهما كانت المبررات. وليس من مقتضيات آيات التكفير والكراهية ما يدعو للقتل، أو قطع العلائق، أو الحيلولة دون تبادل المعارف، والمصالح، والخبرات. و[أسرى بدر] عَلَّموا أبناء المسلمين في المدينة، ومات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي.

إننا نمقت الحكام الظلمة، ونلعن المتسلطين العملاء، ونمتعض من دول الاستكبار، ولكننا لا يمكن أن نجد مبرراً لمقاتل يصوب بندقيته دون حاكم يأمر، أو قائد يُصَرِّف، أو قوة متكافئة تحمي.

إن شهوة القتل لذاته وحشية يمقتها الإسلام، وتعافها النفوس السوية، وهي سبيل قاصد لمقت الله. ومن مقته الله، لعنته الأرض التي تقله، والسماء التي تظله، والثياب التي تستره. فليتق الله من في قلبه ذرة من إيمان. إننا نكره أقواماً، وتمقتهم ألسنتنا، ولو ظفرنا بهم، لوفرنا لهم الأمن، وأشعرناهم بإنسانيتهم، وبسطنا معهم الحديث، وأتحنا لهم فرصة الدفاع عن أنفسهم.

وكيف لا تحتدم إنسانية الإنسان، والله قد كرم بني آدم؟.

إن العنف الذي اجتاح عالمنا، إن هو إلا ردة فعل أمام عبث العابثين بالمقدرات والمقدسات. فالواقع مرير، والحياة قاسية، والآفاق مدلهمة، ولكن واجب العلماء، والمفكرين، وأهل الحل والعقد الربط على الأفئدة، وتثبيت الأقدام، ومواجهة الضوائق بالحكمة والتروي.

فليس من الحكمة أن نختار طريق التصعيد والصراع، ولاسيما أن أمتنا أمة منهكة، تعيش حالة من الخوف، والجوع، ونقص في الإمكانيات والثمار، وكل أمرها لا يساعد على المواجهة. إنها في زمن الاتقاء، والإكراه. والله يقول:- { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } و{إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً }.

ولم يبق والحالة قد بلغت منتهاها إلا أن نجنح إلى السلام، شعوباً وحكومات، ونعود إلى الداخل، لنصلح أنفسنا أولاً. وإذ لا يكون من السهل التنازل عن معتقداتنا، ومقدساتنا، وأفياء وطننا، فإن بالإمكان التصالح، والتعايش، والتعاذر، والاشتغال في القواسم المشتركة، حتى يأذن الله بصلاح الأمة، واجتماع كلمتها. وما ذلك على الله بعزيز.

ويكفى أن نتأمل آيتين هُنَّ جماع الأمر كله :- {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} و{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

و[التغيير] و[النُّصْرة] يتحققان، أو يتحقق أيسرهما: بإتيان المستطاع من المأمور، وتقديم الأسوة الحسنة، والفعل الذي تتحقق معه مقاصد الإسلام، ومصالح الرعية، ومواكبة الجماعة، والرفق بالأمة، واتقاء الأقوياء، بما يبقي على أقل الحقوق، وإعداد الذات، بما يكفل لها العيش الكريم، والدفع بـ{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } و { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } و {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } مع طرح المشروع الإسلامي، دون تجاوز لحدود التبليغ، تماشياً مع :- [بلغوا عني ولو آية ]، والتفسح لنواتج الاجتهاد المعتبر، وتغليب رأي الجماعة، وإن كان مفضولاً. فالذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية، وتعزيز الجبهة الداخلية بالمحافظة على سائر الوحدات : الفكرية، والدينية، والاجتماعية، والاقليمية. فكل صدع في الوحدة، يغري المتربصين بالنفاذ، واحتناك المكتسب.

ومتى أمنت الأمة، أمكن فتح سائر الملفات، وممارسة الإصلاح، وحمل المسؤول على التخطي إلى الأفضل.

اللهم ادرأ عن البلاد والعباد والمقدسات مضلات الفتن.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب