Monday 30/12/2013 Issue 15068 الأثنين 27 صفر 1435 العدد
30-12-2013

كيف نودع من هم ساكنون فينا ؟!

ها هي الأيام تدور وتكرر ألم رحيل مر أذقته والدي قبل أربعين عاماً؛ حين رحلت عنهما من القرية لا إلى أمريكا أو أستراليا أو نيوزيلندا؛ بل إلى الرياض!.

كم كان الرحيل والابتعاد عن دفء أجواء الأسرة وبيت العائلة مؤلما وقاسيا؛ وبخاصة في الأيام والأشهر الأولى؛ ولكنه كان أشد قسوة وألما ومرارة على الوالدين، وهو هذا الشعور الذي لم أدركه وأكتوي بناره إلا بعد أن أصبحت أبا ورأيتك يا بني مستغرقاً كل الاستغراق في ترتيب حقيبتك وجمع أوراقك وتفقد ما تحتاج إليه في غربتك الطويلة التي قد تزيد على أربع سنين، كنا نهيئ لك أمر هذا السفر البعيد، ونذلل كل ما كان يقف أمام تحقيقه ونقلق من قلقك حين تأخرت ردود بعض الجامعات الأمريكية التي كنت تبعث إليها طلب الالتحاق، فيعتذر بعضها أو يتأخر، لا لضعف في تحصيلك، بل لأنك كنت تطمح ألا تلتحق إلا بالجامعات المميزة ذات المستوى المرموق والسمعة العلمية العالية، فيصيبك ما يصيبك من النكد والتذمر، ثم تعاود الكرة مرة بعد مرة إلى أن تحقق لك مرادك، ولكنك تأتي إلينا بوجه متقلب وبمشاعر غاضبة من عدم موافقة الوزارة على التخصص الذي تريد، فنذهب نطرق بابا بعد باب إلى أن يسر الله لك ما تريد، فغمرتك مشاعر الفرحة والانتشاء، بيد أننا ونحن ندفع عربتك المتعثرة كي تنطلق وتغرب بك عنا بعيدا لم نكن نعلم أننا أيضا نطلق مشاعرنا المدفونة المخبوءة تحت لهاث الاهتمام بتحقيق رغبتك فتفور ليحرقنا هجير رحيلك، وتعذبنا نشوتك، وتغلبنا دموع الفراق الذي أزف وأنت تعانق أفراد الأسرة واحدا واحدا، وتقبل رأس أمك ويديها وتضمك بحنان مخضب بنشيج وتمسح على رأسك بالأدعية والأوراد!

ها أنت تترك مكانك في قلوبنا خاليا إلا منك!

ها أنت كنت هنا في هذه الزاوية من صالة الجلوس، هنا كنت تضع حاسبوك على طاولة صغيرة تحتضنها بين يديك وأنت منشغل بعالمك عما حولك في قراءاتك ومشاكساتك التي لا تنقطع بين حين وحين، معلقا على خبر أو ضاحكا بأعلى صوتك من فكرة، أو ساخرا بروح الناقد من تغريدة!.

هذه غرفتك الصغيرة واجمة ساكنة كئيبة بعد رحيلك؛ لا طقطقة أبواب، ولا صرير كرسي، ولا كتبا أو كراريس أو ملابس منثورة هنا وهناك على السرير أو على المنضدة الصغيرة بجانبك!

وهذا مكانك على مائدة الطعام خاليا خاويا لم يملأه إلا خيالك المتوقد الذي لم يستطع غيابك محو سلطة حضورك!

كيف يمكن أن نهنأ بلقمة عيش بعدك وأنت عنا بعيد لا بألف ميل ولا بألفين ولا بساعة أو ساعتين؛ ولكن بمسافة تنائي قارات وانقلاب ليل إلى نهار ونهار إلى ليل.

كيف لنا أن نحرك هذا السكون الذي جثم على كل ركن وزاوية كنت روحا وقّادة فيه؟ كيف لنا أن نطرد أشباح كآبة نتحايل عليها بمرح مصطنع مكذوب لم يستطع أن ينسينا مرارة غيابك؟!

سرتُ معك إلى آخر باب محجوب لا يمكنني أن أضع يدي في يدك بعده، إلى حيث يختم على جوازك بالرحيل، وعلي قرار العودة إلى البيت المهجور إلا من خيالك، أرحل أنا إلى عالم من مشاعر الوحدة وأنت عالمي كله وترحل أنت إلى عالم من الصخب والعالم كله بين يديك!.

قلت لي: يا أبي ليت أننا نسافر فجأة بلا وداع! ليت أني أنام وأصحو ثم أجدني هناك دون أن أشعر بما أشعر!

يا أبي سامحني إن أنا أخطأت أو قصرت؛ فإنني حتما لا أعني ذلك، يا أبي أعدك أن أكون كما تتمنى وتطمح،

ثم غاب.

لوح لي بيده البارة الوفية بعيداً ورحل.

حلقتَ أنت يا بني في الفضاء البعيد، وحلقتُ أنا في فضاء الوحشة وحيداً إلا منك، أكتب قصة رحيلك بدم القلب.

moh.alowain@gmail.com

mALowein@

مقالات أخرى للكاتب