Wednesday 01/01/2014 Issue 15070 الاربعاء 29 صفر 1435 العدد
01-01-2014

الوازع الديني .. قاعدة محاربة الفساد

احتفلت دول عديدة باليوم العالمي لمكافحة الفساد، وحرصت معظم الدول على التغطية الإعلامية لهذا الحدث العالمي لبيان الأثر السلبي الذي يتركه الفساد ورؤوس المفسدين على المجتمعات والاقتصاد والتنمية والتطور.

ويُؤكد اهتمام العالم بالفساد أن المنظمة الدولية بأعضائها الـ (193) تتصدر مسئولية محاربة هذه الآفة (الفتاكة)، ولذلك وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على الاتفاق الدولي لمكافحة الفساد في الأول من أكتوبر 2003 سعياً من المنظمة لمحاربة هذا الداء الخطير الذي أصبح يهدد العالم من أدناه إلى أقصاه، ولذا كان ولا يزال محل اهتمام منظمات دولية منها، منظمة الشفافية الدولية التي تُصنِّف الدول العربية في تقاريرها كدول تحتل المراتب الأولى في الفساد.

في هذا المقام من المهم البيان أن ظاهرة الفساد ليست حديثة العهد، فالفساد (المالي) قديم قِدم الإنسان نفسه فقد أعطانا القرآن الكريم نموذجاً حياً فنحن نقرأ قصة قارون في القرآن، وحتى في صدر الإسلام رغم النور الساطع الذي بثّه دين الله الخالد في قلوب المهاجرين والأنصار والمؤمنين كافة، إلا أن الفساد كان موجوداً، إلا أنه كان محدوداً جداً.

فقد كان السلف الصالح يعرف خطورة المال الحرام على الدين، فكانوا يتحرون أن يكون مطعمهم طيباً، ففي صدر الإسلام والدين لا يزال أثره قوياً في صدور المؤمنين، وعندما علم بعض الصحابة رضي الله عنهم عقوبة أخذ المال الحرام سواء من المال العام أم من عامة الناس استعفوا من الولاية، واعتذروا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قبولها لخوفهم - على رغم قوة إيمانهم - أن يلحقهم بعضٌ من الغلول فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - عذرهم، ومنهم أبو مسعود الأنصاري الذي قال: (بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعياً ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك ببعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال إذاً لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذاً، لا أكرهك) رواه أبو داود.

وها هو أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يراقب الكسب غير المشروع واستغلال النفوذ بنفسه، فعندما تجوّل بالمدينة رأى منزلاً لعامله على البحرين فقال: (تأبى الدراهم إلا أن تطل برؤوسها).

واليوم، أصبحت قضايا الفساد التي تنقل وسائل الإعلام النزر اليسير منها من أبرز وأخطر القضايا استعصاء على الحل لكونها خطراً يحدق بالدول والمنظمات والمجتمعات بل والأفراد، فالفساد طغى على مناحي الحياة كلها في الدول المتقدمة والنامية والمتخلفة، والأسوأ أنه يستشري كل عام ويتمدد ويضرب بجذوره عميقاً في الأرض حتى أصبح عصياً على الاقتلاع وأصبح الفقراء من الناس مجبورين على ابتلاع ثمرته المرة رغم أنوفهم.

وأخذ الفساد يكبر ويتضخم عبر السنوات حتى بلغ العالم في هذا المجال دركاً سحيقاً، تأباه العقول الراشدة، وتتقطع منه النفوس السليمة ألماً وحسرة، تمدد بجميع أنواعه من رشاوى واستيلاء على المال العام وسرقات وعمولات حتى أصبح وباءً خطيراً وشراً مستطيراً.

اذاً في زماننا هذا فقد ماتت بعض الضمائر، وضعف الخوف من الله عند البعض، وسادَ حب النفس والأنانية فشاعت الرشوة وانتشرت المحسوبية وعمّ الفساد واستغل كثيرٌ من أصحاب النفوذ نفوذهم لا يفرّقون بين حلال وحرام يأكلون أموال الناس بالباطل، وينهبون المال العام دون أن ترتجف لهم يد، وبهذا المال الحرام أصبحوا من أصحاب السلطة والسطوة والكلمة.

ولنا أن نسأل إذا كان هؤلاء المفسدون قد ماتت ضمائرهم وتضخمت ذواتهم وأعمتهم الأنانية، فأخذوا ينهبون ويسرقون، ويفسدون في الأرض، دون وازع من ضمير، أو مانع من دين أو خلق، فأين سلطة القوانين والأنظمة واللوائح الناجزة، وسيف العدل القاطع، ويد السلطة المانعة، لتمنع هؤلاء عن الفساد، وتردعهم عن أعمالهم الخبيثة وممارساتهم الدنيئة، وتجاوزاتهم المضرة بالدول والمجتمعات.

وإذا كان الفساد قد انتشر في كل بقاع العالم، فقد كنا نتوقع أن تكون أرض العالم العربي والإسلامي جزيرة من الطهر والعفاف، وسط ذلك المحيط المتلاطم من الفساد، كنا نظن أن يظل أديمها مساحة من النقاء لأنها أرض الإسلام، دين النقاء والعدل والعفة والطهر، والمواساة والإيثار والمشاعر الإنسانية الرقيقة، ولكننا للأسف نجد أن البعض من المسلمين انغمسوا في ما انغمس فيه الآخرون، بل إن بلاد العالم العربي تُعتبر من أكثر البلاد التي ينتشر فيها الفساد، وإن كثيراً منها قد صنّفته مؤسسات تهتم بالشفافية والفساد في مقدمة أسوأ بلاد العالم من حيث انتشار الفساد.

ومع هذا نتحدث عن وجود أجهزة للرقابة السابقة والرقابة اللاحقة والرقابة المباغتة من خلال وزارات المال ودواوين المحاسبات والرقابة وغيرها، ولكن وجود هذه الأجهزة شيء والتطبيق العملي شيء آخر، فمثلاً الرقابات السابقة بيد عدد قليل من الموظفين معروف أداؤهم ورقابتهم ويفترض أن نتائجها تكون واضحة لكل ذي عين بصيرة والرقابات اللاحقة تراقب بعد مرور سنين ضياع ولو دولار واحد ضاع ضمن أرقام عديدة، ولكن النتيجة لكل الرقابات لا تزيد عن (صفر).

إذاً هذه الرقابات كلها غير فاعلة وليس باستطاعتها فعل الكثير لكبح جماح الفساد المستشري في معظم أجهزة الإدارة في الدول العربية مع غياب كل الرقابات بما فيها رقابات دواوين المحاسبات، ومما يزيد الطين بلة دفن قوانين من أين لك هذا، حتى وسائل الإعلام التي تتحدث عن الفساد فإنها تذكره على استحياء ذاكرة من يستولي على ألف دولار وتنسى من يستولي على مليار دولار.

ولو قُدّر للعالم العربي وقامت كل المؤسسات الفاعلة ضد الفساد بواجبها لانحصرت حدته، ومنها السلطات القضائية والرقابية والمحاسبية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام والمجتمعات والحملات المباغتة التي تستهدف الوزارات والهيئات الحكومية لاجتثاث الفساد.

إن كل القوانين والأنظمة التي صِيغت لمحاربة الفساد والقضاء على مثل هؤلاء الفاسدين اُحتيل عليها ولوي عنقها بأسلوب يفوق صياغتها فأصبحت حبراً على ورق، وأصبح الفاسدون ينفّذون خططهم في الاستيلاء على المال العام وإرهاق عاتق المواطنين في الرشاوى جهاراً نهاراً، لأنهم ضمنوا غياب الرقابات وأمنوا من العقاب (ومن ضمن العقاب أساء الأدب) كما يُقال.

Eml:dredaljhani@hotmail.com

رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة

مقالات أخرى للكاتب