Friday 03/01/2014 Issue 15072 الجمعة 02 ربيع الأول 1435 العدد
03-01-2014

إنماء مجتمع الحي يؤنس وحشة المدن

نحن نرمي المدن - ولا سيما الكبرى منها - بتهمة تفريخ الفرد المجهول؛ ما يعني أن الفرد الواحد من الناس القاطنين بها غارق في بحر سكانها اللجيّ المتلاطم، لا يلتفت إلى أحد، ولا يلتفت إليه أحد. فهو واحد من حشد كبير يصطف معهم ولكنه غير متصل بهم. هذه العزلة الإنسانية موحشة،

ولا تتفق مع طبيعة الإنسان الاجتماعية. لذلك يبحث الفرد السويّ عن بيئة حاضنة دافئة - في العائلة وفي المهنة وفي المسجد وفي الشلة، وغير ذلك من وسائل الاجتماع. لكن هذه العزلة الموحشة قد تولد عند البعض أنماطاً من السلوك غير الطبيعي، إما بسبب الشعور بعدم الانتماء لهذا الحشد البشري ومن ثم التمرد على قيمه وأخلاقياته ؛ أو الشعور بالضياع والنقص وعدم الاطمئنان ومن ثم البحث عما يغطي هذا الشعور. نقطة الضعف التي ترسخ الشعور بالعزلة هي فقدان الآلية التي تجعل من أفراد المجتمع نسيجاً مترابطاً يشد بعضه بعضا. وأستعير في هذا السياق للتعبير عن المقصود نص الحديث النبوي المعروف: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى). مثل هذه الآلية وجدت نموذجاً عملياً لها في أثناء زيارة دعيت لها مع جمع من الفضلاء العاملين في مجال الثقافة والإعلام لمقر لجنة التنمية الاجتماعية في حي الملك فهد بالرياض. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه توجد بالرياض ثماني عشرة لجنة مماثلة تدعمها وزارة الشؤون الاجتماعية ويشرف عليها إدارياً مركزان للتنمية الاجتماعية في الدرعية والرياض. تسميتها باللجنة لايدل على حقيقتها. فاللجان عادة تجتمع وتنفض وقد يكون لها سكرتارية، وتوصياتها أو قراراتها تعتمدها أو تنفذها الجهات الممثلة فيها غالباً. وفي حالات كثيرة تكون مهمة اللجنة إطالة بحث موضوع معين أو (زحلقته). أما هذه اللجنة فهي أقرب إلى أن تكون مركزاً للحي حافلاً بالنشاط الحيوي المستمر الذي يقوم به أعضاء هذه اللجنة المتطوعون غير المتفرغين بمشاركة من أهل الحي حسب نوع النشاط، ولها مقر دائم - متبرع به أيضا- يشتمل على أقسام وظيفية متعددة وأماكن اجتماعات. هذا المركز (الذي هو المقر الدائم للجنة) لا يدور فيه النشاط بمعزل عن المرافق الأخرى في هذا الحي (والأحياء الأخرى التي يغطيها نشاط اللجنة) - مثل المساجد والمركز الصحي والمدارس وغيرها. هذا الترابط بين اللجنة ومرافق الحي وسكانه هو عصب الحيوية في أنشطة اللجنة، ومنها:

* الاستشارات الأسرية: يقدمها أخصائيون متطوعون في أوقات محددة متفق عليها.

* دروس التقوية: من معلمي مدارس الحي.

* برامج العناية بالبيئة.

* مهرجانات ترفيهية وثقافية ورياضية.

* لقاءات وجلسات حوار بين سكان الحي.

* دورات تدريبية في بعض المهارات العملية والفنية.

* برامج ترفيهية للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.

* برامج خاصة مع شركات الحاسب.

* حلقات عن فن التعامل مع الأبناء.

* برنامج (حق الجار) لتقوية التعارف والمودة بين الجيران.

* لقاءات وندوات توعوية فى مجالات الصحة والتعليم والبيئة والأسرة.

ومن الواضح أن هذه الأنشطة وغيرها تطبق بصدق رسالة اللجنة التي تتمثل في (تكوين علاقة إيجابية بين الفرد والحي الذي يعيش فيه، وتشجيع مشاركة أبناء الحي في جهود تنمية وتطوير حيهم، والمحافظة على مكتسباته ومنجزاته). ولا أظن أن تنفيذ مثل هذه البرامج المنوعة يتم بسهولة، لكنه صار ممكناً لتوافر العوامل المؤثرة التالية:

* رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية وإسهامها ببعض التمويل وإشرافها الإداري ممثلة بمركز التنمية الاجتماعية في الدرعية.

* مبادرات التبرع المالي والعيني من بعض القادرين من سكان الحي وجهات أخرى.

* التفاعل الإيجابي من سكان الحي والرغبة في المشاركة والاستفادة من أنشطة اللجنة.

* إشراف جيد ونشط من أعضاء مجلس الإدارة البالغ عددهم أحد عشر عضواً متطوعاً وغير متفرغ، يربط بينهم الاقتناع بأهداف اللجنة والعمل على تحقيقها.

* الاستفادة من المؤهلين وذوي الخبرات والطاقات في الحي للمشاركة في أنشطة المركز. ويجدر في هذا السياق التنويه بدور الهيئة التعليمية في مدارس الحي وهو دور يناسب تماماً مستواهم الثقافي ومؤهلاتهم ووظيفتهم التربوية - بصرف النظر عن تخصصاتهم المختلفة.

ما رأيته من عرض لبرامج اللجنة وما سمعته من خلال الحوار يزيدني يقيناً بأن مثل هذه اللجنة يمكن أن تكون هي النواة لمراكز الأحياء التي يطالب الكثيرون بها. ومع أن توفير المكان الذي يتسع لأنشطة المركز أمر لا غنى عنه، إلا أن الاستفادة مما هو موجود من مرافق حكومية وأهلية في الحي في أغراض ملائمة لهذه المرافق- مثل المساجد والمدارس والحدائق وغيرها من الأماكن العامة المهيأة - أمر لا غنى عنه أيضاً، ليس لمجرد الاستزادة من المكان، بل الأهم من ذلك لدعم الترابط والتعاون بين مكونات الحي والمشاركة الفاعلة من العاملين فيها، والمحافظة على جذوة الحماس والاستعداد وروح الانتماء للحي بين سكانه وزيادة فرص تحقيق النتائج الإيجابية. إن مثل هذا المركز لا يستطيع أن يأخذ شيئاً من مهام المرافق الحكومية والأهلية، ولا يجوز أن يفعل ذلك، وإلا نشأ شيء من التهاون والتواكل لدى هذه المرافق. العكس من ذلك هو المطلوب ؛ أي أن تكون مشاركة أهل الحي وتفاعلهم حافزاً لتلك المرافق لأن تحسن وتستكمل خدماتها، وأن تتفاعل مع متابعة أهل الحي لاحتياجاتهم. في هذه البيئة المتعاونة لا يكون الفرد منساقاً مع الجماعة بل متفاعلاً ومتواصلاً معها، ولا يشعر بوحشة المدينة.

إن يد الله مع الجماعة - ديناً ودنيا.

مقالات أخرى للكاتب