Sunday 05/01/2014 Issue 15074 الأحد 04 ربيع الأول 1435 العدد
05-01-2014

على مائدة بان كي مون

لن أنسى أول مرة دخلت فيها مبنى «الأمم المتحدة» في جزيرة مانهاتن - نيويورك، كان ذلك في شهر سبتمبر «أيلول» من عام 1974، وقد عدت تواً من الولايات المتحدة مكملاً دراستي العليا. أخبرني رئيسي في ذلك الوقت المرحوم فاروق الحسيني مدير الإدارة الاقتصادية بوزارة البترول والثروة المعدنية أن صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل وكيل الوزارة قد اختارني للمشاركة في وفد المملكة العربية السعودية، المسافر إلى نيويورك لحضور الدورة الخاصة التي تعقدها الأمم المتحدة عن التنمية الاقتصادية.

قطعت المحيط بالدرجة السياحية إذ لم تكن مرتبتي (التاسعة) تخولني الحصول على تذكرة بالدرجة الأولى ولم تكن درجة رجال الأعمال قد اعتمدت بعد.. ذهبت في الصباح الباكر إلى مقر المنظمة وانتهيت بدون قيد أو شرط إلى مكتب مندوب المملكة في المنظمة الدولية وهو السفير الأسطورة جميل بارودي -رحمه الله-.. استقبلني السفير هاشاً باشاً وسألني بعفوية «شو جابك يا ابني» قلت له مستغرباً «إنني أتيت للمشاركة مع وفد المملكة لحضور الدورة المذكورة» شدني إليه بحنان أكثر، وقال بس يا ابني هذي أجلت للعام القادم، نظرت إليه باستعطاف وسألته وماذا عن الوفد السعودي، فأجابني لم يصل سوى عبدالعزيز الزامل (معالي المهندس فيما بعد) وكان وقتها موظفاً في مركز الأبحاث التابع لوزارة التجارة والصناعة، ثم أردف: «شوفه بالمكتب اللي قدامك، قال يكتب تقريره» !!، ويبدو أن اللقافة استبدت بي فقلت والحيرة (تسري في لساني) «وشو تقريره» بضم الراء الأخيرة وسكون الهاء، قلتها وأنا أبسط كلتا يديّ فأحمر وجهه وقال لي وهو يزورُّ من أمامي «ما بعرف روح أساله».

عدت بعد قليل مودعاً السفير وبيدي نسخة من ميثاق المنظمة الدولية لازلت أحتفظ بها وقلت له بهدف تغيير الموضوع أن هذه من أستاذنا الدكتور بطرس غالي وزعه علينا عام 1964 بجامعة القاهرة، نظر السفير إلى الميثاق بازدراء وأعاده إليّ ثم ربت على كتفي وافترقنا إلى أن التقينا العام التالي 1975 لنفس المهمة، وكان الوفد مؤلفاً من عدة جهات حكومية برئاسة معالي المرحوم عبدالرحمن منصوري وكان واضحاً أن الوضع قد تغير بعد أن تسنم سمو الأمير سعود الفيصل سدة الخارجية عدنا واستضافنا السفير البارودي على مائدته في مطعم المنظمة وكانت الوجبة الرئيسية «بارودي ستيك» وهي أحدى بصمات السفير الراحل في تلك المنظمة العتيدة. -وتلك قصة أخرى-.. (ملحوظة: السفير البارودي من رجالات الملك فيصل -رحمه الله- عينه لهذه المهمة وكان من أبرز السفراء يلقي كلمته من دون إعداد باللغة الإنجليزية التي لا يجاريه فيها أحد وله وقفات ولمزات مع الوفد الإسرائيلي).

هذه الزيارة تمت منذ أربعين سنة عدت خلالها إلى نفس المبني في مهمات أخرى كان آخرها يومي 26-27 أكتوبر من عام 2013 بصفتي عضواً بالهيئة الاستشارية التي ألفها الأمين العام للإشراف على تنفيذ مبادرته المعروفة بالطاقة للجميع، وهي التي تنادي بتوفير الطاقة النظيفة للمحرومين منها بحلول عام 2030 ويواكب ذلك زيادة مساهمة الطاقات المتجددة بنسبة 40% في مزيج استهلاك الطاقة، وكذلك نفس النسبة في زيادة كفاءة استخدام الطاقة (أي الحد من التبديد من استعمال الطاقة).

في حفل العشاء الرسمي تكرمت إدارة البروتوكول بأن وضعت مقعدي ليس فقط على مائدة الأمين العام وإنما إلى جانبه وهي فرصة نادرة لي لكي أفاتحه بما تقوم به دولنا من جهد مالي وسياسي يواكب ما ينادي به من أفكار نحو بلوغ هدفه.

طرح السيد بان كي مون مبادرته في سبتمبر 2011 وألّف لها فريقاً متخصصاً كنت ممن شاركوا فيه، وفي سبتمبر قدم تقريره الأوليّ عنها إلى الجمعية العامة ثم ألّف الفريق الاستشاري الذي نحن بصدده.

كنت أحد المتحدثين في حفل العشاء الذي حضره رئيس البنك الدولي الذي يشاطر الأمين العام في إدارة جلسات الفريق الاستشاري وعدد من السفراء ورؤساء المنظمات الدولية، وكانت فرصة أن أوضح للمؤتمرين ما يلي:

1 - بدأ الحديث عن فقر الطاقة ومحاولة القضاء عليه أو تخفيفه في شهر نوفمبر 2007 بمدينة الرياض خلال القمة الثالثة لملوك ورؤساء منظمة أوبك التي استضافها الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مدينة الرياض، وكلف صندوق أوبك للتنمية الدولية (أوفيد) مع غيره من مؤسسات التنمية في الدول الأعضاء بالبحث عن أنجع الوسائل لمعالجة فقر الطاقة الذي يتمثل في حرمان 1.3 بليون نسمة في العالم من خدمات الطاقة الكهربائية.

2 - وفي العام التالي دعا خادم الحرمين الشريفين إلى مؤتمر طارئ في جدة لمنتجي الطاقة ومستهلكيها أطلق خلاله مبادرته المعروفة «الطاقة للفقراء» Energy for the poor ومن خلالها طلب من المجلس الوزاري لصندوق الأوبك للتنمية الدولية (أوفيد) النظر في تخصيص بليون دولار لهذا الغرض، وقد تبنت كل من مجموعة العشرين والثمانية مبادرة خادم الحرمين الشريفين وأصبحت بنداً لا يتجزأ من أجندة دولية.

3 - وفي مطلع عام 2010 تبنى وزراء الطاقة في الدول المنتجة والمستهلكة للطاقة في المكسيك في مؤتمرهم العام الذي يعقد كل سنتين اقتراحاً من أوفيد أن يكون القضاء على فقر الطاقة الهدف التاسع من أهداف الألفية الثمانية التي أغفلت عام 2000 هذا الهدف لسبب غير معروف.

4 - وفي عام 2011 وافق مجلس وزراء أوفيد على زيادة رأس مال الصندوق بمقدار بليون دولار.

5 - وفي عام 2012 وافق المجلس على إصدار إعلان عرف بإعلان القضاء على فقر الطاقة يقضي بتخصيص بليون دولار للمساهمة في القضاء على فقر الطاقة، كما نادى بذلك خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله-.

وكلفت إدارة أوفيد بإعلانه في قمة ريو زائد 20 في شهر يونيه 2012، وتم ذلك في جلسة شارك فيها السيد بان كي مون.

6 - وفي شهر يونيه من عام 2013 قرر المجلس الوزاري أن يكون هذا المبلغ (البليون) متجددا أو Revolving.

هذه المعلومات كانت المادة التي حوتها كلمتي التي لم تزد عن سبع دقائق وهي تحمل رسالتين:

1 - الأولى أن دولنا على مستوى القمة بدأت من خلال الصناديق الوطنية وعلى رأسها الصندوق السعودي للتنمية الذي يرأس مجلس إدارته معالي وزير المالية وكذلك الصناديق الإقليمية والدولية ومنها صندوق الأوبك (أوفيد) في البحث عن حلول من شأنها تخفيف فقر الطاقة عن الدول النامية قبل أن ينادي به معالي الأمين العام، وفعلنا ذلك كجزء من مسؤولية دولية يتقاسمها الجميع.

2 - أننا نشعر بالارتياح عندما تحول هذا الهدف إلى بند في الأجندة الدولية إذ إن مواردنا المالية لا يمكن أن تفي بمتطلبات هذا المشروع العالمي، ولابد من تكثيف جهود كل الجهات العاملة في القطاعين العام والخاص في كافة الدول.

بقيت نقطة تعمدت أن أضعها في ختام هذه المقالة وهو مشاركة المملكة العربية السعودية في هذه الدورة ممثلة بصاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، مساعد وزير البترول والثروة المعدنية لشئون البترول عضو المجلس الاستشاري المشرف على تنفيذ مبادرة بان كي مون.

كان وجود المملكة مؤشراً له دلالته العميقة على موقف الحكومة السعودية الإيجابي من مبادرة الطاقة للفقراء التي نشأت في الرياض وترعرعت في جدة، وهو موقف قدّره الجميع خاصة السيد بان كي مون الذي أصدر بياناً في اليوم التالي أثنى فيه على دولنا وما تقوم به من جهد نحو تخفيف مشكلات الفقر إلى مصادر الطاقة في الدول الفقيرة، مستنداً إلى البيان الذي أصدره المجلس الوزاري لصندوق الأوبك (أوفيد) بتخصيص مبلغ البليون دولار المتجدد.

أخيراً أرجو أن أذكّر من يهمه الأمر أن مبادرة الملك عبدالله المعروفة بالطاقة من أجل الفقراء ظهرت في الثالث والعشرين من شهر يونيه 2008 أي قبل أن يصدر معالي السيد بان كي مون مبادرته «الطاقة للجميع» بثلاثة أعوام أو تزيد، وتأملوا ما قاله حفظه الله في ختام خطبته في جدة أمام المؤتمرين وعلى رأسهم رئيس جمهورية الصين والسيد جوردن براون رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت:

«أيها الإخوة والأخوات: في هذه الساعة الحرجة يجب أن يرتفع المجتمع الدولي إلى مستوى المسؤولية وأن يكون التعاون هو حجر الأساس في أي مجهود وأن نكون جميعاً في نظرتنا إلى الحاضر والمستقبل أصحاب رؤية إنسانية عميقة شاملة تتحرر من الأنانية الضيقة وتسمو إلى آفاق الإخاء والتكافل، وفي هذا وحده سر النجاح».

مقالات أخرى للكاتب