Friday 10/01/2014 Issue 15079 الجمعة 09 ربيع الأول 1435 العدد
د. عبدالله بن ثاني

د. عبدالله بن ثاني

زعماء .. بعثوا شعوبهم من تحت الركام

10-01-2014

قراءة في الموقف الشرعي من أمثال نِيْلسون مَانْديلا (عَظِيمَ أفْرِيقِيَا)..!!

التنازل الأخلاقي يبدأ بخطوة واحدة ثم لا يقف عند حد، وكان مانديلا ثابتاً على أخلاقه التي بعثت شعباً بأكمله من تحت ركام العنصرية والاستعمار، لم يتنازل للمغريات ولم يسوغ الخيانة ولم يكن يكن عاشقاً لذاته بل كان عاشقاً وبامتياز لمبادئه التي استحق عليها كل هذا الصيت،

وسيأتي زمن يقول العالم فيه كنا نعيش في زمن مانديلا مثلما كانوا يقولون كنا نعيش في زمن غاندي.. والمؤلم أننا في هذا الوطن وبطريقة تشعرنا بالخجل جميعاً نوزع صكوكنا على الناس في جميع أنحاء هذا العالم فنفرزهم ونقيمهم تقييماً غير موضوعي تماماً متجاهلين طريقة الإسلام المثلى في الحكم على الناس من حيث الأخلاق دون العقيدة كما كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أدل على ذلك من الموجات المرتدة والعبارات البذيئة والتطاول الذي لا يليق بمسلم بعد موت الشاعر أحمد فؤاد نجم والرئيس مانديلا في الأيام الماضية وأصبحنا فريقين؛ فريق يدافع وفريق يتهم، وهي قضية لا تعنينا وكان يمكن أن نستغلها في بيان سماحة الإسلام العظيم، والكارثة أن الشعوب لا تعلم عن جدالنا ولا تتوقع أن إنساناً مؤهلاً يختلف حول من أجمعت القارات على عدله ونضاله وصبره، لم ينتقم من أعداء الأمس ولم يسرق وطنه ولم يحول نضاله إلى مشروع استثماري لأبنائه من خلفه كما فعل الثوار العرب في جمهورياتهم؛ وخير ما يقال في مثل حاله على الأقل «لا تترحموا عليه ولاتشتموه»..

أعجبتني مضامين رسالة الشيخ عايض القرني -وهكذا الداعية الذي يهمه هداية الناس وليس الذي يشيطنهم- لمانديلا عام 2010م يدعوه فيها للإسلام ويثني عليه خيرا ومنها: ((أيها الرئيس العظيم: إن المُثل العليا التي تدعو لها سوف تجدها مجتمعة في الإسلام، والرحمة التي يخفق قلبك بها سوف تلمسها في الإسلام، والعدل الذي تدعو إليه سوف تسعد به في الإسلام. إن الإسلام يحب الصابرين وأنت صابر، ويحترم الأذكياء وأنت ذكي، ويبجِّل العقلاء الأسوياء وأنت عاقل سوي، ويحتفي بالشجعان وأنت شجاع. أيها الرئيس العظيم: لقد عشت معك أياماً جميلة عبر مذاكرتك: (رحلتي الطويلة من أجل الحرية)، فوجدت ما بهرني من عظمتك وصبرك وبسالتك، فقلت: ليت هذا الإنسان الفاضل الألمعي مسلم، ووالله لا أجد ديناً يستأهلك وتستأهله غير الإسلام، ولا أعرف مبدأً يكرم مثلك إلا الإسلام؛ لأنه دين الفطرة، يشرح الصدر، ويخاطب العقل، ويهذِّب النفس، ويزكي الأخلاق، ويكرِّم الإنسان، ويعمر الكون)).. ما أجمل هذه العبارات في تلك الرسالة التي تقطر وعياً وفهماً وأسلوبا يليق بأهل الإسلام العظماء.

أستحضرتها من ذاكرتي في هذا الخضم الجدلي الحاصل والتعليقات على موت الزعيم مانديلا الذي أجدني آسفاً ومضطراً للحزن على حالتنا التي وصلنا إليها من عدم ضبط مسارنا وعدم فهم ديننا ومتى نعادي ومتى نثني ومتى نسكت، وأصبح الخطاب بيد مغامرين يسيئون للإسلام ويحرجوننا كأمة ذات حضارة إسلامية ملأت الدنيا عدلاً وعلماً وإنصافاً، ولا أدري لماذ لا نستحضر المصلحة في أقوالنا وأفعالنا وبخاصة أن العالم اليوم أصبح في شاشة صغيرة بين يدي البشر، ويراقب ويرصد شعورنا تجاه مقدساته وثوابته التي يراها هكذا وربما كان مسوغاً لإيذاء أقليات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ولا أعتقد أن هناك مصلحة يكتسبها الإسلام والمسلمون على السواء في سب وشتم زعيم مثل مانديلا الذي كان مناصراً لقضايا المسلمين كالقضية الفلسطينية وغيرها وصاحب مثل عليا من عدل ورحمة وعقل ونضال ضد الظلم والعنصرية، ويجب علينا أن نستحضر الموقف الشرعي من خلال ما يلي:

1 - قال الإمام النووي: «قال العلماء يحرم سب الميت المسلم الذي ليس معلناً بفسقه وأما الكافر والمعلن بفسقه من المسلمين ففيه خلاف للسلف وجاءت فيه نصوص متقابلة وحاصله أنه ثبت في النهي عن سب الأموات ما ذكرناه في هذا الباب وجاء في الترخيص في سب الأشرار أشياء كثيرة».. ومادام الأمر فيه خلاف فالمصلحة العليا في زمن حوار الحضارات وتقارب البشرية وعدم تكافؤ ميزان القوى العالمي أن لا نصد عن سبيل الله بحمل هذا الكم الهائل من العداوة للبشرية وزعمائها وإن كنا نكره ماكانوا عليه من الكفر، وبخاصة أن المسلمين لم يلمسوا من مانديلا شراً ولم يجدوا منه حرباً ولا صداً عن سبيل الله.

2 - يقتضي الإسلام العدل، قال تعالى قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ..}.. الآية، وقال تعالى: «{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..}، وقد نزلت الأخيرة في بني يهود، ويقتضي وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}؛ ما قاله أنس بن مالك -فيما رواه البخاري- وأنس صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخادمه 10 سنوات حياته في المدينه: «لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً، كان يقول لأحدنا عند المعتبة ما له ترب جبينه».. فأخلاقه صلى الله عليه وسلم لم تكن مع المسلمين فقط، بل كانت مع كل من تعامل معه، ولذلك سمته قريش الأمين بأبي هو وأمي، ولا أدل على ذلك من قول أبي سفيان في بلاط قيصر الذي أجاب أبا سفيان: «وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله!.. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر».

3 - نيلسون مانديلا عظيم من عظماء أفريقيا ومن أهل الكتاب ولا يعني كونه غير مسلم أن نبخس الناس أشياءهم ولقد كان رسول الله يطلق ألقاباً منصفة لزعماء العالم آنذاك فيصفهم بالعظمة والعدل، ومن ذلك رسالته إلى هرقل «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.. وقال في رسالته إلى كسرى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس.. وقال في رسالته إلى النجاشي: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الإسلام إلى النجاشي ملك الحبشة.. والدرس الأخلاقي الذي يمكن أن نستنبطه من هذا ملاطفة المكتوب إليه وتعظيمه وتلين القول له من قوله: «إلى عظيم الروم».

4 - ثناؤه على النجاشي درس أخلاقي عظيم للأمة، إذ ذكر الحافظ ابن حجر أن ابن إسحاق نص على أن السبب في ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه لما رأى المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفهم عنهم إن بالحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً.. وإن كان بعض أهل العلم يردون وصف رسول الله لكسرى أنوشروان بأنه الملك العادل في قوله: «ولدت في زمن الملك العادل» فإن ذلك ثابت في حق النجاشي الذي كان على النصرانية حينما قال عنه رسول الله لا يظلم عنده أحد.. وذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد، بل جزم أن النجاشي الذي كتب له صلى الله عليه وسلم الكتاب ليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علم بموته معتمدا على رواية مسلم.

5 - القول اللين والأسلوب المحترم من المحفزات لقبول الدعوة، والثناء على أخلاق من هم في حجم مانديلا وفي ظل الشرع القويم موجبة لأن يؤثر ذلك في أتباعه وفي أمثاله من المؤثرين عالمياً، وبخاصة أن العالم كله مجمع على حسن خلق هذا الرجل وعشقه لمبادئه.. قال تعالى لسيدنا موسى عليه السلام عن فرعون الذي قال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، قال ابن كثير: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، وروي عن سفيان الثوري: كنه بأبي مرة.

6 - نهى رسول الله عن سب الأموات لأنه يؤذي الأحياء فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (لا تسبُّوا الأموات، فإنَّهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا) رواه البخاري؛ وروى الترمذي عن المغيرة نحوه، لكن قال: «فتؤذوا الأحياء «، قال ابن رشد: إن سب الكافر محرم، إذا تأذى به الحي المسلم، ومثل هذا يحرج المسلمين في تلك البلاد وربما ضرهم في عيشهم وعبادتهم وتعايشهم مع من حولهم، وروت كتب السيرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: (يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبُّوا أباه، فإن سب الميت يؤذى الحي، ولا يبلغ الميت)؛ لقد كان أبو جهل فرعون هذه الأمة يعبد الأوثان بينما مانديلا من أهل الكتاب وعلى النصرانية، ومع ذلك فالرسول يأمر الصحابة -رضي الله عنهم- بألاَّ يلعنوا أبا جهل أمام ابنه عكرمة؛ لكي لا يؤذوا مشاعره، مع أن عكرمة لم يُسلِم في تلك اللحظة!.

7 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر على أمنا عائشة رضي الله عنها مدحها لكافر، والسيرة مملوءة بنصوص الثناء الأخلاقي على غير المسلمين كعنترة وحاتم.

8 - قام رسول الله لجنازة يهودي، وفي هذا دليل على خلق الإسلام الرفيع، روي البخاري: عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: «مر بنا جنازة، فقام لها النبي فقمنا به, فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي، قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا.»، وكذلك عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: «كان سهل بن حنيف, وقيس بن سعد، قاعدين بالقادسية، فمروا بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض -أي من أهل الذمة- فقالا: «إن النبي مرت به جنازة فقام، فقيل: إنها جنازة يهودي, فقال: أليست نفساً؟».. وقال تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.

9 - الشعور الذي سيطر على العالم ومنه الإسلامي بأجمعه بسبب موت هذا الزعيم العادل يمكن أن يستأنس بفتوى الشيخ الدكتور سعد الشثري (عضو هيئة كبار العلماء سابقاً): يقول: «الحزن على موت كافر ليس له حكم شرعي لأنه يرد على النفس دون أن تختاره».. ولذلك من المصلحة المرسلة أن تعزي الدول الإسلامية والحكومات والجمعيات والمؤسسات والمنظمات الإسلامية أمة أفريقيا فيه، ولا ضير في ذلك.

والله من وراء القصد،،،

abnthani@hotmail.com

عميد الموهبة والإبداع والتميز البحثي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

مقالات أخرى للكاتب