Tuesday 14/01/2014 Issue 15083 الثلاثاء 13 ربيع الأول 1435 العدد
14-01-2014

أنت السيد رقم بن رقم

حين تركل بقدميك الصغيرتين رحم أمك، يتم إدخالها بغرفة ذات رقم، وخلال ساعات تلدك، وحالما تطلق صرختك الأولى، تسرع الممرضات بوضع أسورة حول معصمك الرقيق تحمل رقم ملف أمك بالمستشفى، لتبدأ رحلتك الطويلة والمضنية مع الأرقام، تسجّل ضمن المواليد الجدد، وتحمل رقماً مدنياً يمثّلك، تسكن بيتاً برقم، هاتفك الثابت له رقم، تدخل المدرسة برقم، وتكون في الصف برقم، يتحدّد مستواك الدراسي برقم، وتدخل الجامعة برقم، وتلتحق بالوظيفة برقم، كل شيء حولك جعلك رقماً رغماً عنك!

منزلك تُقاس مساحته برقم، شارعك يُقاس عرضه برقم، طولك، وزنك، ثوبك، شماغك، حذاؤك، جوربك، حتى صحتك تحكمها الأرقام فقط، حرارتك، وضغطك، والسكر في دمك، والكولسترول، وكل تفاصيل جسدك الصحية أرقام في أرقام!

يومك يتحدّد بأرقام، من تاريخه، إلى ساعاته، من استيقاظك إلى نومك، وأنت رقم بن رقم، لا لون لك، ولا رائحة، ولا طعم، دون أن يمتلئ دماغك الصغير بالأرقام الهائلة!

كنت في السابق رقماً غير مؤكّد، لكنك في عصر الإلكترون أصبحت رقماً مؤكّداً خالصاً تماماً، كل ما يحيط بك أرقام، حسابك البنكي له رقم، رصيدك له رقم، بطاقة صرافك لها رقم، بطاقتك الائتمانية، جوالك، كمبيوترك، بريدك الإلكتروني، حسابك في الفيس بوك، في تويتر، في الانستجرام، أنت مجرد كتلة أرقام تتحرك، لا يليق بك سوى تسمية السيد رقم بن الأرقُم!

شاشة التلفزيون في غرفتك ذات مقاس برقم، النافذة أيضاً برقم، سيارتك لها رقم هيكل، ولوحة، وموديل، بل أصبحت تشك بأنك أقل حتى من رقم، فالأرقام تُشترى وتُباع، لها ثمن، رقم لوحة السيارة المميز له ثمن، ورقم الجوال المميز له ثمن.

كم مرة تسمع خلال يومك سؤالاً من قبيل: كم رقمك...؟ وكم مرة يجب عليك أن تستعيد رقماً ما، وكم مرة تنسى رقماً ما، دون أن تفكر أنك أنت أصبحت رقماً، أي أصبحت شيئاً، فقط تشعر بالسعادة أنك عشت حتى لحقت بهذا الجيل الرقمي، واستمتعت بكل طفرته وجنونه، دون أن تتوقف قليلاً عند تشيؤك، أي كونك أصبحت شيئاً، دون أن تفكر ولو لوهلة كيف تستعيد إنسانيتك، بل كيف تعود كما كنت كائناً حيّاً، تتنفس وتتكلم وتضحك وتبكي، دونما حسابات الأرقام المعقدة!

ماذا لو قرّر أحدنا أن يتخلص مما يحمله، وما يحيط به من أرقام، ولو لبضعة أيام؟ كيف سيعيش حراً تماماً، من كل قيوده الرقمية، ويستعيد ذاكرته الطرية؟ حتماً سيكون بحال أكثر هدوءاً من الطمأنينة والسعادة.

مقالات أخرى للكاتب