Thursday 16/01/2014 Issue 15085 الخميس 15 ربيع الأول 1435 العدد
16-01-2014

سيرةٌ لا تُرى ..

** تختزنُ الذاكرةُ أحلامَ البدايات وإرهاصَ النهايات، ويتيه ما بينهما في تزاحم التفاصيل الصغيرة التي لا نعبأُ بها بالرغم من امتدادها في منحنياتِ الأيام والأشهر والأعوام وتأثيرِها في اليقظة والمنام؛ فما نزال نستعيدُ أيام الطفولة اللذيذة التي لا تُقاس برفاهية طفل اليوم، بل ربما بدت هذه مقارنةً بتلك أقربَ إلى طفولة المُعوزين، وفي الكهولة والشيخوخة إيماءاتُ الوداع وحصيلة عمرٍ هدَّه التطوافُ وانحسرت أمامه مسافاتُ المسير فاتسعت هواجسُ المصير.

** خلاصةُ حياةٍ لا تستحقُّ صراعًا ولا تحتمل أوجاعًا، ويبقى الرضا الداخليُّ مطلبًا عسيرًا مهما علت درجاتُ النجاحِ النسبيِّ المادي والمعنوي، ونعود بعد الترحال الطويل لنتمنى لحظة استرخاءٍ لا تقطعُها دقات الساعة معلنةُ موعدًا مع الركض الذي لا يأبهُ بالفرض ولا يلتفت للرفض.

** درج أكثرُنا على احترام الوقت بذاتيةٍ تربوية تراتبيةٍ ورثناها فوجدنا القدوةَ في سوانا والقوةَ من أنفسنا، وألِفنا الصوتَ الهادئَ والصمت الواعيَ والعلائق اللطيفة، وكان درسُ بعضنا الأولُ: لا تخطئْ كي لا يُخطأَ عليك، ولا تشكُ فالحقُّ عليك، واحذر السيجارة الأولى في كل عادةٍ رديئة، واختر أصحابك بعناية، ويبدو أنهم علِموا معنى الرقابةِ الخفية التي كانت تحسسُهم بالثقة المطلقة وتَقرأ من بُعدٍ مَن يصادقُهم ومن يصادفهم وما يدورُ في حكاياتهم الطفولية دون أن تمنعَ أو تصفع.

** توطئةُ سيرة لمسيرةٍ آن أن تُكتب وتُدرس بعدما تبدلت الأحوالُ بين الأجيال حين كثرت المحرمات فازداد المنتهكون وحضرت الرفاهية فعَرُض المحرومون وانتشر العلمُ فتخرج جاهلون وتعدد الرقباءُ فامتدَّ المتجاوزون وعلت لافتاتُ العدل والنزاهة والمسؤولية فلم يرتدع الظالمون والفاسدون والمنفلتون.

** لم يكن الزمن بريئًا كما لا زمنَ متواطئٌ ولكنها تعقيداتُ الحياة وتشابكاتُها، وفيما كانت أجملُ سهراتنا مع برنامج ومسلسلٍ وكتابٍ ومجلسٍ يغشاه بنو أبينا ويقترب سقفُه فيحتوينا صار العالمُ النائي سميرَنا الأدنى فقرب البعيد الذي لا نعنيه ولا يعنينا وبعد القريب الذي هو نبضُنا وومضُنا وشغلتنا التقنيةُ عن الإتقان والسرعةُ عن رؤية المزار وتحديد المسار.

** لا زمنَ أجملُ من زمن، وفي أيامنا هذه كثيرٌ مما يبهج غير أن إمضاءات السيرة تقتضي مقارنةً شخوصٍ بشخوص ومحدداتٍ بمستحدثات، وفي خريف العمر تمتد المسافة الورائية لتصبحَ الأطولَ والأبهى بما يجعلها أكثر حضورًا وأزهى تذكرًا، ولتبقى كتابةُ السيرة الذاتية مشروعَ أمانة وشرعنةَ قيمة دون أن يحجبها دخانُ البخور النرجسيِّ الذي يُذكي رائحة الجَمال.

** كتابةُ السيرة الشفافة مهمةٌ مستحيلة حين تتجاوز العامَّ إلى الخاصِّ والعلنيَّ إلى الخفيِّ، ومعظم ما ينشر لا يعدو أن يكون عرضًا لأعوامٍ تمددت أفقيًا وتوشك أن تكون استنساخًا من بعضها مع تغير الصور والوجوه، ويبقى ما خلف ذلك مُحاطًا بمحاذيرِ الرقيب الداخليِّ والخارجيِّ الذي لا يأذن بالإفاضة كما لا يتقبل الضجيجَ الاعترافيَّ، وهو ما يعني بقاء السير حكاياتٍ متناثرةً ذات قيمةٍ محدودة لأنها لا تقول.

** السيرةُ كشفٌ وعصف.

ibrturkia@gmail.com

t :@abohtoon

مقالات أخرى للكاتب