Friday 17/01/2014 Issue 15086 الجمعة 16 ربيع الأول 1435 العدد
17-01-2014

أكلَ محمدٌ التفاحةَ

يجب ألا يمر يوم الثامن عشر من ديسمبر دون أن نتذكر موقف القيادة السياسية السعودية التي بذلت جهودا عظيمة ليحتفل العرب بهذا اليوم، حيث اعتمد المجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) يوم الثامن عشر من ديسمبر ليكون يوما عالميا للغة العربية،

وذلك بعد طلب من المملكتين السعودية والمغربية، حيث تقدمتا بمقترح يوضح دور اللغة العربية وإسهامها في حفظ ونشر الحضارة والثقافة العربية بوصفها لغة اثنين وعشرين عضوا من أعضاء اليونسكو، ويتحدث بها ما يفوق 422 مليون عربي، ويستعملها ما يزيد على مليار ونصف مسلم حول العالم، ناهيك عن أنها إحدى اللغات الرسمية الست في منظمة الأمم المتحدة. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أصدرت قرارا في دورتها الثامنة والعشرين بتاريخ 18 ديسمبر 1973 يقضي باعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية المقررة في الجمعية العامة ولجانها الرئيسة. ثم بعد 37 عاما وتحديدا في 19 فبراير 2010 اعتمدت إدارة الأمم المتحدة لشؤون الإعلام قرارا يقضي بالاحتفال بالأيام الدولية للغات الرسمية الست في الأمم المتحدة، حيث حدّد يوم 18 ديسمبر يوما عالميا للغة العربية.

والسؤال أو الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن هي: هل تقع اللغة ضمن اهتمامات الساسة؟ وهل هناك صراعات وحروب لغوية كما هو الحال في الحروب العسكرية؟ وهل هناك لغات تنقرض أو تموت على حساب لغات أخرى ؟ وهل هناك دول تحافظ على لغاتها وتحاول نشرها بشتى السبل ؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل العرب ضمن تلك الدول التي تحافظ على هويتها اللغوية وتعمل على نشرها؟ هذه مجرد تساؤلات نطرحها على الجميع في اليوم العالمي للغة العربية، وسنحاول الإجابة عن بعضها، ويبقى البعض الآخر قائما أمام الباحثين للإجابة عنه بتوسع.

يجيب عبد السلام المسدي عن بعض هذه الأسئلة فيقول: « من ظن أن اللغة شيء والسياسة شيء آخر فقد وضع نفسه خارج منطق التاريخ، ومن توهم أن الخيارات السياسية تستقيم في معزل عن الخيار اللغوي فقد ظلم السياسة، وظلم اللغة، وظلم نفسه». ثم يشير إلى أن علم اللغة الحديث - اللغويات أو اللسانيات كما يطلق عليه البعض - قد ازدهر في الولايات المتحدة بسبب «حرص السلطة المركزية على جمع أشتات المجموعات الإثنينة داخل دولة فدرالية واحدة». فيما يتعلق بالصراعات اللغوية فلا أدل على ذلك من الصراع بين الإنجليزية والفرنسية، أما في أمريكا اللاتينية كما يشير المسدي فنجد ما أصبح يعرف بالتحالفات اللغوية؛ «فالاسم الحركي للتحالف اللغوي هو «ميركوس» ويضم أربع دول: البرازيل، والأرجنتين، وباراغواي، والأوروغواي، وهذه السوق اللغوية المشتركة هي اقتصادية في الأساس، لكنها قررت أن تتشارك في لغتيها الرئيسيّتين: الإسبانية والبرتغالية وأن تعمل في المستقبل على لغة واحدة».

لن نتحدث عن دور العرب قديما وحديثا في الحفاظ على لغتهم، لكن سأركز هنا على دور القيادة السعودية في ذلك؛ إذ هذا ما تسمح به المساحة هنا. اهتمام القيادة السياسية للمملكة لم يقتصر على المفاوضات في أروقة منظمة الأمم المتحدة، بل إنه وقبل التاريخ أعلاه بادر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - إلى إصدار أمره السامي الكريم رقم 7231، وتاريخ 23/7/1429هـ القاضي بالموافقة على إنشاء مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، ويهدف المركز إلى المحافظة على العربية ودعمها ونشرها ليتجاوز الاهتمام الحدود المحلية إلى العالمية. ويحظى المركز باهتمام ورعاية شخصية من معالي وزير التعليم الدكتور خالد العنقري المشرف العام على المركز؛ فلم يمض وقت قصير على إنشائه حتى وصلت اللغة العربية إلى أسوار الصين شرقا عبر فعاليات منتظمة قدمها المركز بقيادة أمينه العام الدكتور عبد الله الوشمي، بل جاءت الصين نفسها إلى سوق عكاظ ليعيد الناطقون بالعربية من الصينيين بعض أيام العرب وقصائدهم من خلال دراسات وأبحاث قدمت بلسان عربي ونكهة صينية، ونشرتها القناة الثقافية السعودية باهتمام إعلامي يلائم أهمية اللغة العربية. غني عن الذكر هنا أن نشير إلى أن المركز أصبح خلال وقت يسير مظلة حقيقية للغة العربية؛ إذ لا يكاد يمر أسبوع دون أن يكون هناك فعالية معينة، أو مناقشة لمشروع، أو دعم لآخر، ولا يزال أمامه الكثير، لكنه ولد عملاقا، ويصير بخطى واثقة، وقدم نفسه بشكل حيوي مختلف عن غيره من المؤسسات النظيرة.

هذا الموقف ليس بجديد على القيادة السياسية في المملكة، فقد أصدر الملك فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله - أمره الملكي في 25 من جمادى الآخر 1394هـ بإنشاء معهد اللغة العربية بجامعة الرياض (الملك سعود حاليا)، وهو المعهد الذي أشرف بالانتماء إليه، ويهدف إلى تعليم اللغة العربية لغير العرب من طلاب الجامعة وغيرهم الذين يقدمون إلى المملكة من الأقطار الإسلامية وغيرها، وإجراء البحوث في ميدان دراسة مفردات اللغة العربية وتراكيبها وغير ذلك مما يتطلبه نشر اللغة العربية، وإعداد مدرسين متخصصين في تدريس اللغة العربية لغير العرب. ونظرا لأهمية المعهد فقد أوليَ رعاية خاصة من معالي مدير الجامعة السابق الدكتور عبد الله العثمان، حيث وجه بإنشاء مبنى خاص له مزود بتقنيات ومعامل حاسوبية وفصول ذكية، ثم أتى خلفه معالي الأستاذ الدكتور بدران العمر مدير الجامعة الحالي ليخص المعهد بزيارة في أيامه الأولى بعد توليه منصب إدارة الجامعة تعكس اهتمامه باللغة العربية، حيث دشن معاليه مشروع العربية التفاعلية على الإنترنت، ووجه بعد ذلك بتصميم العربية التفاعلية على الأجهزة الذكية آيفون وجاليكسي وغيرها، وذلك خدمة للعربية، وحرصا على نشر ثقافتها، وتحقيقا لنظرة القيادة السياسية ممثلة في الفيصل رحمه الله.

اللغة العربية إذن تمثل هوية الأمة وليس غريبا أن تجد هذا الاهتمام من لدن القيادة السياسية أو الأكاديميين من وزراء ومديرين، بل الغرابة في أنه مع هذا الاهتمام نجد بعض المظاهر اللغوية الأجنبية، وبالتالي الثقافية قد غزت شوارعنا وأسواقنا، على مستوى أسماء المحلات التجارية والأسواق والمنتجات والمأكولات، بل تجاوز مستوى المفردة إلى مستوى العبارة والجملة، وربما كان سيسوء الأمر أكثر لولا تدخل معالي وزير التجارة والصناعة الدكتور توفيق الربيعة الذي يجب أن نرفع له كلغويين بل كمجتمع آيات التقدير والثناء فهو بحق نصير اللغة، حيث أكدت وزارة التجارة والصناعة على «المنشآت والأسواق والمحلات التجارية ضرورة استخدام اللغة العربية في جميع الفواتير وبطاقات السعر والإعلانات والعقود وعروض الأسعار والمطبوعات وشهادات الضمان. ولم تكتف الوزارة بذلك بل حددت عقوبة مالية صارمة على المخالفين تصل إلى ( 100.000) ريال على أن تضاعف الغرامة إلى الضعف وإغلاق المحل لمدة تصل إلى سنة كاملة في حالة تكرار المخالفة»، وقد بدئ فعليا في تطبيق القرار اعتبارا من 1/1/1434هـــ.

اليوم العالمي للغة العربية ليس للحديث عن النحو والإعراب وجملة «أكلَ محمدٌ التفاحةَ»، الجملة التي درّست في مقررات اللغة العربية من المحيط إلى الخليج ظنّا من المتخصصين أن النحو وحده هو من سيحفظ اللغة، لكن طلابنا استوعبوا «تفاحة أبل» أكثر؛ لأنها ركزت على الاستعمال، في حين أن التفاحة الأولى بقيت حبيسة القوانين النحوية. يفترض أن يكون هذا اليوم للنظر إلى اللغة العربية من حيث هي «هويةً» لأمة، لغةً للقرآن والحديث والشعر وأيام العرب وآدابهم، لغةً للتواصل، لغةً للتعليم والإعلام، لغةً للعلوم المختلفة؛ فالقضية تجاوزت مرحلة اللحن الذي عولج قديما بتقعيد اللغة إلى مرحلة زحفت فيها اللهجات العامية، واللغات الأجنبية، ودخلت في صراع مع العربية، واللغة العربية بقوة ذاتية صمدت لمدة تزيد على سبعة عشر قرنا.

إنه من المعيب علينا وقد ملكنا الفضاء الإعلامي أن يكون دور الفصحى هامشيا. وصل الحال إلى أنه حتى المسلسلات أصبحت تترجم «بالعاميات» في صورة مسخ لغوي وثقافي يضع أكثر من علامة استفهام، ويتصادم تماما مع التوجهات السياسية للقيادة. نحن لا نتحدث هنا عن رفع منصوب أو نصب مرفوع، إنما نتحدث عن هوية أمة، هوية سادت حتى في البلاد التي فتحها العرب؛ ففي الأندلس، مثلا، تسابق الأندلسيون من غير العرب لتعليم أبنائهم العربية لما يرونه فيها من لغة القوي المنتصر. ولكم أن تقلبوا الصورة لتروا الجانب الآخر منها وكيف يتسابق العرب اليوم للحديث بلغات أخرى، ليس في مقام التواصل مع الآخر الذي قد لا يعرف العربية، إنما فيما بينهم يلوون ألسنتهم للحديث بها، ولكم أيضاً أن تتخيلوا كم من الملايين تعمل في المملكة وتقيم زمنا ثم تغادر دون أن تتعلم العربية، مع أنه في بلدان العالم الأخرى يشترط معرفة مستوى معين من اللغة. أليس من واجب وزارة مثل وزارة العمل هنا أن تشترط على العمالة على الأقل معرفة الحد الأدنى من اللغة العربية بدلا من هذه اللغة «الهجين» التي اضطررنا نحن مع الوقت أن نتعلمها منهم؟!

- أستاذ اللغويات التطبيقية المشارك - معهد اللغويات العربية - جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب