Sunday 26/01/2014 Issue 15095 الأحد 25 ربيع الأول 1435 العدد
26-01-2014

مؤشرات فشل (جنيف 2) أقوى من أسباب نجاحه؟!

ربما كان أجمل ما في مؤتمر (جنيف 2) لبحث الأزمة السورية الملتهبة والمتصاعدة والتي عُدت أكثر تعقيداً في عامها الثالث.. هو (مكان) انعقاد يومي افتتاحه (الأربعاء والخميس الماضيين).. في تلك المدينة السويسرية الجبلية الساحرة (مونترو)..

بصفاء وعذوبة وزرقة مياه بحيرتها.. بشريطها الساحلي الخلاب إن نظرت إليه من علٍ أو سرت فيه على قدميك أو عبرته في عربة.. بغيومها الرمادية الداكنة والبيضاء وهي ترسم في سماء المدينة لوحات تشكيلية باهرة، وبشوارعها القليلة وبوتيكاتها الصغيرة المكتظة بأجمل الملابس والمقتنيات.. وبفنادقها النضرة ومقاهيها الفريدة ومطاعمها التي يتسابق (طباخوها) في تقديم أجمل الوجبات وألذ الأطباق لـ(زبائنهم)، الذين يقصدونهم من أقاصي الأرض والبلاد، فـ(مونترو).. تمثل بحق خلاصة جمال المدن السويسرية قاطبة، لا يضاهيها بين مدن وسط أوروبا إلا مدينة (إيفيان) الفرنسية المقابلة لها على الشاطئ الفرنسي من (بحيرة ليمان)، والتي عندما تراها لأول مرة تشعر بأنها مدينة لم تبن بالطوب والحديد والأسمنت، ولكنها نُسِجَت على يد فنان عبقري.. وكأنها لوحة من لوحات (الكنفاة).. بزركشاتها وألوانها الخلابة، والتي أهَّلها بُعدها المكاني وتفردها الجمالي.. لاستضافة المحادثات الفرنسية الجزائرية الحاسمة في ستينيات القرن الماضي، والتي انتهت بإعلان استقلال الجزائر.. وانسحاب فرنسا من أراضيها أيام الزعيم الفرنسي الأكبر والأعظم شارل ديجول..!

* * *

ولكن ربما كان أعجب ما في هذا المؤتمر (جنيف 2).. وكما بدا ساعة افتتاحه في تلك القاعة الرحبة الرائعة من قاعات فندق (البتي باليه) أو القصر الصغير.. هو في ذلك العدد الهائل من الدول التي دعيت لحضوره (42 دولة)!! ممن تعنيهم الأزمة السورية، وممن لا تعنيهم كـ(كندا والبرازيل وأستراليا) أو (المكسيك وكوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا).. مثلاً؟! إلى جانب المنظمات الدولية الكبرى كالاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.. وقد خُصص لكل وفد منها.. ثمانية إلى عشرة مقاعد حتى كادت القاعة ألا تتنفس من شدة ازدحام الحاضرين لهذا اللقاء من الساعين له والراغبين فيه.. إلى الكارهين له.. والمضطرين لحضوره..!

إن السؤال الذي يطرح نفسه.. بداية: لِمَ كل هذه الأعداد من الدول..؟ ولِمَ.. كل هذا الحضور الكثيف؟ أليكونوا - فقط - شهوداً على محادثات ستجرى في (جنيف) بعد انفضاض يومي جلسة افتتاحه في (مونترو).. بين طرفي الأزمة الرئيسين: (المعارضة) بأطيافها و(الموالاة) بجبهتها حول (الحكومة الانتقالية) التي قبل بها حضور (جنيف 1) من حيث (المبدأ).. ورفضتها (الموالاة) من حيث (التفاصيل)؟ أم لإيجاد أجواء من الرهبة.. تدفع الطرفين وأنصارهما - إن أحسنا الظن - إلى القبول بمبدأ (ما لا يدرك كله.. لا يترك جله)..؟ أو دفعهما - إن أسأنا الظن - إلى متاهات المحادثات الأممية كتلك التي جرت في منتصف القرن الماضي.. في أعقاب الحرب العالمية الثانية حول (كوريا).. والتي انتهت إلى تقسيمها إلى كوريتين: شمالية اشتراكية.. وجنوبية رأسمالية..!! بينما الأمر هنا سيكون مختلفاً إن مضينا في سياق (التقسيم) الأممي المحتمل هذا.. ليكون سياسياً في ظاهره، وطائفياً في أعماقه.. لتقوم - في النهاية - دولتا: سوريا السنية.. وسوريا الشيعية..؟! وعلى العالم العربي والإسلامي خاصة.. أن يستعد لتلقي مفاجأة من هذا العيار الثقيل..؟!

* * *

ولذلك فإن أصعب ما في هذا (المؤتمر).. الذي غدا وكأنه أممي بهذه الأعداد من الدول والمنظمات التي دعيت لحضوره (الفاتيكان.. حاضر!) ولم يُعرف - على وجه الدقة وليس التخمين - من هندس لـ(دعوتها) على هذا النحو إن كانت هي (أمانة) بان كي مون العامة.. أم أن هناك من أوحى بها من خارج الأمانة لغرض في نفس يعقوب (فإسرائيل.. غائبة ولكن ممثليها حاضرون!)، وقد اعترف بعض قادة الجنوب السوداني - مؤخراً - بأنه لولا جهود (إسرائيل) ودعمها لما تم (الانفصال) بين شمال السودان وجنوبه عام 2009م..!

فإذا كان أهل (منترو).. قد عبروا بروح الضيافة أو الترويج السياحي لمدينتهم عن سعادتهم وبهجتهم بعقد جلسات افتتاح (جنيف 2) في مدينتهم، وإلى حد التفاؤل بـ(نجاحه) باعتبارهم أصحاب تجربة حديثة ناجحة عندما استضافت مدينتهم الجلسة التأسيسية الأولى لمؤتمر (الفرنكوفونية) بأعداد من أعضائها الناطقين بـ(الفرنسية) من مختلف مناطق وقارات العالم.. تفوق في كثرتها أضعاف أعداد من حضروا للمشاركة في مؤتمر (جنيف 2)، فإن هذه السعادة أو هذا التفاؤل.. لا يصح أن يُنسي أهل (مونترو) الجميلة أو يُنسينا طبيعة الفوارق والاختلافات الواسعة والعميقة بين مؤتمر (الفرنكوفونية) ودعوته الثقافية الحضارية لتماسك وتعاضد الناطقين بالفرنسية - بعد أن زال الاستعمار الفرنسي عن مستعمراته في مختلف القارات - في مواجهة هجمة (الأنجلوسكسونية) عموماً و(الأمركة) خصوصاً التي أخذت تجتاح العالم.. وبين مؤتمر (جنيف 2) ذي الطبيعة السياسية المتصارعة أو التناحرية - على وجه الدقة - بين أعضائه ومكوناته، والتي بلغت حد الاقتتال المرير بين (الموالين) و(المعارضين) من أعضائه.. وما أسفر عنه من دمار لـ(فيحاء الشام) دمشق، وشهبائه (حلب)، ولمدينته التراثية الحضارية (حمص) إلى جانب ثغور الشام وأريافه.

فما أوسع الفوارق - يا أهل مونترو - بين (المؤتَمَريْن).. بين مؤتمر يجمع عشاق اللغة الفرنسية وآدابها وفلسفتها وإبداعها عموماً لـ(نصرتها)، ومؤتمر يجمع الأضداد والمتحاربين ليتكاسروا وليتغالبوا بلغة (الدبلوماسية) والحوار بعد أن عجزت لغة السلاح - رغم الدمار الهائل الذي أحدثته المواجهة على أرض الواقع - عن أن تقلد أحدهما قوس النصر!! فـ (الجامع) الوحيد بين المؤتمرين - يا أهل مونترو - هو في استضافة مدينة مونترو الجميلة لهما، ولكن وكما قال المثل اليوغوسلافي في زمانه (إن غناء بلبل واحد.. ليس كافياً لاستدعاء الربيع)..!! إذ إن ترتيب الجلوس في قاعة القصر الصغير أو (البتي باليه).. كان موحياً بحالة (المكاسرة) المنتظرة أو (المغالبة) المتوقعة التي ستكون عليها طبيعة المناقشات في هذا (المؤتمر) بعد أن وضع منظمو القاعة على رأس طاولة الجلوس الضخمة: رئيس الوفد الأمريكي (جون كيري) وإلى يمينه رئيس ائتلاف المعارضة السورية (أحمد الجربا).. بينما وضعوا على الرأس المقابل من الطاولة رئيس الوفد الروسي (سيرجي لافروف) وإلى يمينه وزير خارجية سوريا (أو الموالاة) وليد المعلم.. لتبدأ (المكاسرة) - عفواً - ليبدأ (الحوار)..!؟

* * *

فكلمتا رئيسي وفدي الحكومة السورية (وليد المعلم).. وائتلاف المعارضة السياسية (أحمد الجربا) في جلسة افتتاح المؤتمر.. لا توحيان بـ (مخرج) منظور للأزمة، أما إذا تفحصنا شروط ومواقف (القوى الإسلامية المعارضة) الأخرى الحاضرة على الساحة السورية، والغائبة عن (جنيف 2).. وما أكثرها وما أكثر مسميات الجهات الإسلامية التي تنتمي إليها من (الجبهة الإسلامية) إلى (الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام) إلى (جيش المجاهدين)، تقابلهم معارضة إسلامية أخرى أشد تطرفاً ودموية من (داعش) إلى (القاعدة) بـ(شروطهما) الأخرى المضافة.. فإن آفاق (حلحلة) الأزمة وليس (حلها) تنعدم تماماً، ولا يبقى أمام الدبلوماسي الجزائري الأممي المخضرم الأستاذ الأخضر الإبراهيمي إلا أن يأتي بـ(لبن العصفور) أو (المستحيل).. لكسر هذه المغالاة في تمسك كل طرف من أطراف النزاع بـ(مواقفه)..!

ولكن يبدو أن الأستاذ الإبراهيمي.. المثقف والعالم بالصراعات التاريخية الكبرى في المنطقة، والتي يتصدرها الصراع العربي الإسرائيلي.. قد آثر الاستعانة بـ (التاريخ) وبما فعله صنوه الدبلوماسي الأمريكي الأسود مساعد الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق (رالف بانس).. عندما أدار في جزيرة (روجس) أول مفاوضات (عن بُعد) بين العرب وإسرائيل عام 1949م، وهو يتنقل من طرف لآخر.. دون أن يلتقي الطرفان غير المعترفين ببعضهما وجهاً لوجه، وهو ما بدأه فعلاً الأستاذ الإبراهيمي.. منذ يوم الجمعة الماضي في جنيف بعد انتقال المؤتمر وحضوره إليها، فإذا مضى (الإبراهيمي) في التأسي بسلفه (بانش).. فإن المؤتمرين في (جنيف 2) والعالم من خلفهم سيجدون أنفسهم بعد أسبوع أو شهر أو أكثر.. أمام أول (هدنة) فعلية في الأراضي السورية بين المتصارعين والمتقاتلين فوقها، وهو ما قد يعد نجاحاً دبلوماسياً للإبراهيمي في الخروج من (أزمة سياسية دينية) حالكة.. مؤشرات الفشل فيها أقوى من أسباب النجاح، ليذهب الجميع بعدها إلى (جنيف 3).. وإن لم يرض عن هذا النجاح أحد من طرفي النزاع الأساسيين.

- جدة

مقالات أخرى للكاتب