Thursday 30/01/2014 Issue 15099 الخميس 29 ربيع الأول 1435 العدد

شعرية المكان ودلالته في القصيدة الشعبية

رؤية - إبراهيم الشتوي:

مدخل:

يقول باشلار (البيت هو ركننا في العالم.. كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى». وقال أيضا «بغض النظر عن ذكرياتنا، فالبيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل مادي في داخلنا»..

سنبحث في هذه الرؤية مدى تفاعل بعض الشعراء والشاعرات مع المكان وفضائه الدلالي وتأثرهم به وتأثيرهم عليه, وما يحمله من قيمة فنية وموضعية وأبعادا دلالية في نصوصهم، فلم يعد المكان يشغل الحيز والحجم فقط، بل أصبح متخيلا إبداعيا منغمسا في ذات الشاعر / الشاعرة ويتفاعل معه جدليا وبشكل حلمي يستخلص منه رؤاه ويبث فيه وجدانه، فأصبح الشعر «مكانا» واسعا يجد فيه الشاعر والشاعرة كل ما يلامس ذواتهم ويصافح وجدانهم ويتفاعل مع رؤاهم نفسيا وسيسولجيا وأيدلوجيا، وكما قال الشاعر بدر الحمد:

للشعر: ظل، وأشجار، وعصافير صيد

والمدى شعر، يا شاعر: تخير مداك

فأصبح «المدى» مكانا للشعر يبحث فيه كل شاعر عن مكانه الروحي والنفسي والإبداعي، وكما يقول باشلار «الإنسان يعلم غريزيا أن المكان المرتبط بوحدته مكان خلاق».

ومن الأماكن المتعارف عليها طوبوغرافيا، الأرض وتضاريسها، مثل الجبل والسهل والكهف. والبحر أعماقه وشواطئه والسماء ونجومها، والمدينة / القرية التي تتجزأ منها الأماكن الفرعية مثل البيت، الغرفة، الفناء، السجن، السوق، الشارع الطريق الدرب، القبر، المقهى، كذلك المكان الورقي الذي يسكب الشاعر حبره وبحره في حدود أسطره, وغيره من الأمكنة تلتصق بالذات.

إذاً، المكان الشعري هو الذي يراه الشاعر بذاته ويتفاعل معه بخياله لا بواقعه الافتراضي، حسب الحالة الحسية والنفسية، حيث تتحقق الشعرية وتنطلق من جذورها الطبوغرافية نحو دلالات وإيماءات تتنصل من الواقع المعاش وتتخذه أرضية لها في نفس الوقت، فنجد أن المكان في تجربة الأمير بدر بن عبدالمحسن له مفهوم متخيل تتخطى دلالاته المكانية الواقعية إلى دلالة تحمل قيمة حسية وتجريدية، إذ انه مرتبط معه ذاتيا ووجدانيا يقول ذات وجدان:

تاقف على أطراف الهدب وما شافتك عيني

صافحتني ومدري يدك هي لمست عيني

فأمكن البدر الهدب متعديا المكان الهندسي إلا المكان الدلالي وجعله حيزا للوقوف، بينما في نص آخر يقول البدر:

إنتي عيونك هالمدى.. بحر وطيور مهاجره

تركت في شطه صدى.. صوتٍ تجرح آخره

فنجد المكان هنا ينتقل من حيزه الواقعي إلى حيزه المتخيل عن طريق الانزياح في قوله «إنتي عيونك هالمدى»، فالتفاعل الفلسفي العميق مع المكان جعل من النص مرجعية وجدانية تنبثق منها صور مشخصة، تحمل دلالات عميقة.

أما الشاعر ماجد الشاوي فيتعامل مع المكان بمرجعية حسية وجدانية حيث يقول:

هبت على شاطئ الحرمان نفحة حنان

ياليتها رايعت.. لين افهم أسرارها

وقفت محتار كني داخل في رهان

مجبور في سلعة ما بانت أسعارها

كما أن المكان أصبح مكونا من مكونات النص في تجربة الشاعر فهد دوحان، حينما استطاع إيجاد سياقات شعرية تنساق بموسيقى ذاته المتعثرة والمبعثرة زمكانيا:

افتش الدرب، آتبعثر فيه: ياهذا الحطام!!

لا شعشعت بك شمس أو هز الهوى فيك الجريد

أما المكان عند الشاعرة غريبة الدار يتخذ في هذا النص مكان سالبا، حيث أصبح رمزا للانقطاع الزمني وإشارة دلالية للانقطاع الوجداني أيضا، حيث تعكس من خلاله جدلية الأنا والآخر كمحطة للرفض والقبول:

يشوفني حلمه وانا اشوف به غير

يشوفني فرحة واذيقه تعاسه

حبه خيالي مثل عشق الأساطير

وانا غرامي ثابت بأرض ياسه

أما الشاعر جمال الشقصي فنجده يتعامل مع حمولة المكان من خلال سياق شعري مليء بالدلالات والرؤى عبر فلسفة ثقافية ووعي تمام في التعامل مع المرجعية المكانية الفاعلة:

اللي غيابك موت ما صادف قبور

واختار يبقى ف سدرة العمر حطاب

أما الشاعر: حمد السعيد، فوظف تقنية المكان / الضريح، وشخص (الشعر) ليثبت قيمة الرمز بدلالاته السالبة كمكان منغلق، وليجمع من خلاله شتات روحه:

آه ياليت تجمع بعثرة مكتبي

والله اني نويت أبني لشعري ضريح

أما المكان / الأرض كحيز جغرافي وكأداة لرسم الصورة الشعرية عند الشاعرة أغاريد السعودية فيمثل مكانا وجدانيا منغلقا في البيت التالي، حيث جعلت من الأرض معادلا موضوعيا للتفريغ النفسي، وحيزا يضيق ويكبر حسب الحالة الشعورية:

وأعاف الكل لا من غاب عني

وروحي ما تطيق أحدٍ بديله

تضيق الأرض في عيني وتصغر

وأخفي حسرة الروح العليلة

أما الشاعر فرج صباح، فاستطاع أن يوظف المكان / الغدير، بصورة شعرية ذوقية، تتمدد جذورها وتنمو للأعلى حيث الانفتاح المكاني والنفسي والوجداني، الذي جعله منه شجرة يتفيأ به مع الآخر مزيدا من الاستمرارية والديمومة:

ما سقاك الله عذر ولكنه سقا

... من غدير الطيب قلبي وظلله شجره

كما أن (سطوة المكان تتعدى في الواقع ما يبدو على السطح من تأثيرتها، وفعاليتها المباشرة، إلى أعماق التكوين النفسي) صبري حافظ. وهذا ما نراه في نص الشاعر سعد الحريص التالي:

حبيبي كانت الفرقا بحر قلت السنين أخشاب

تجوّدت بطرفها قلت أبنسى العقل وجنوني

حبيبي كنت رجمٍ في حشاي وصرت لي مرقاب

أغني بك حروفي وأنت وحروفي تغنّوني

حبيبي لو بكيته طاحت الدنيا سما وتراب

حبيبي لو بكاني طاحت الدنيا من عيوني

فنجد أن الأمكنة في الأبيات السابقة «بحر، رجم، مرقاب، سماء، تراب» استطاع الشاعر سعيد الحريص توظيفها في رؤية شعرية خيالية تجريدية من خلال للمكان وتفاصيله ومحاصيله.

أما الشاعر محمد النفيعي فيتعامل مع المكان بحسب فلسفته الخاصة ورؤيته الدقيقة للأشياء من حوله، يبني عليها ومنها أفكاره، ويشكل الصورة الشعرية من أبعاد ألوانها وأطياف عالمه الحلمي وما يحمله من قيمه حسية وتجريدية:

لدور ما هي زرفتين وشبابيك

الدور.. صفحة نور ونجوم وأفلاك

احسها مثل الكفوف المشابيك

مثل البحر والناس.. حيتان وأسماك

كما نجد أن الشاعر: مناحي العوفي استطاع أن يعبر عن رؤيته للمكان كأداة حادة وعائق حسيا دون آماله وأحلامه ورؤاه حيث يحمل قيمة مكانية سالبة:

مدري ولا أدري وين ياقلب ممشاي

كل الدروب رماح وسط المحاني

كما أن المدينة تلعب دورا بارزا في استثمار المكان كعنصر مؤثرا في النص ومهمينا على التفاصيل السردية الدقيقة، فنجد الشاعر: نايف الرشدان قد ثار على المدينة في أحد نصوصه باعتبارها معول هدم للقيم الاجتماعية، ووظف المكان فيه نوستالجيا، من خلال بحثه وحنينه إلى الماضي وما يحمله من ترابط اجتماعي.

وش عطتنا المدينه كود قطعة ثياب

وش نبي بالكساوي والمبادي عري

أما الشاعرة: عاصية الدمع، فإنها تجعل من الفضاء الطوبوغرافي فضاء شعريا وكمعادل موضوعي لجدلية الحضور والغياب من خلال تقنية المكان التي تحمل دلاله سالبة «وحوش الخلا، عارض السوق» حيث تقول:

نذرٍ علي يا قلب وإن هزك الشوق

لا أرميك لوحوش الخلا والذيابه

دامك وفيت وباعك بعارض السوق

صد وترفع لو يطوّل غيابه

أما الشاعر ناصر السحيمي استطاع أن يوظف القيمة الضدية في المكان كإشارة للبعد والقرب والحضور والغياب من خلال المساحة المكانية بضيقها واتساعها حسيا «ميدان حبك / الجفاء قبره».

القلب ميادان حبك والجفاء قبره

والبعد عنك مماتي لو تصديني

وأخيرا يطل علينا الشاعر سعيد موسى عبر تجليات المكان / الوطن كبؤرة لتفريغ شحنته الانفعالية والرمزية وما يحمله من صراع داخلي هيمن على حدود وطنه الخارجي بمرجعية مكانية متأججة:

ما يَشبِه الخَوف غَير البَرد وَالظلْمَا

لقَيِط هَذا الحْزن في مَوطن أزهَارِي

أما الشاعر إبراهيم السمحان فقد أمكن الطاولة والدفتر وستثمر تقنية المكان كبؤرة تنطلق منه رؤاه وتنبثق من خلاها رمزيته لعالمه الداخلي الذي يعلق عليه لحنه وشجنه في حضور فلسفي واع وقدرة إبداعية متفردة:

وقل عن دوار المنضده.. عن شهقة الدفتر

يوم التقيتنك وافترش طلح المسافه قاف

twitter:@ibrahim_alshtwi