Monday 03/02/2014 Issue 15103 الأثنين 03 ربيع الثاني 1435 العدد

لتفادي آثار الأزمة التي تعصف بأوروبا

المهاجرون وشدّ الرحال نحو بلدان المأتى

روما - سهيلة طيبي:

تؤثر حالة الركود الاقتصادي، أو ما يعرف بحالة الكساد، التي تشهدها الدول الأوروبية ولاسيما منها إيطاليا، على ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل. وقد مسّ ذلك بالخصوص الأجانب منهم، حيث وصلت نسبة العاطلين في أوساطهم إلى ثلاثين بالمئة، حسب التقرير السنوي لوزارة التشغيل الإيطالية. ما دفع بالكثيرين إلى مغادرة إيطاليا، بعد أن كانت جزيرة الأحلام في ماضيهم، والرحيل نحو بلدان المأتى، أو نحو دول أوروبية، أو آسيوية، أو خليجية، أو إلى أمريكا بحثا عن مورد رزق بديل. وفي سعي لمواجهة هذه الأوضاع قامت بعض الدول الأوروبية مثل إسبانيا وأيرلندا والبرتغال، بقصد تخفيف وطأة البطالة التي لحقت بمواطنيها، باتباع سياسة الترحيل القسري للعمال الأجانب الذين فقدوا أشغالهم المؤقتة، لأن ذلك التدفق الهائل للمهاجرين في هذه الفترة لا يعود بأية فائدة على اقتصادياتها، بل بالعكس يزيد من نفقات هذه الدول.

المهاجرون أكثر الشرائح عرضة للبطالة

ومن جانب الحكومة الإيطالية كان اتخاذ بعض التدابير التي ألحقت ضررا بأوضاع المهاجرين، ولمعرفة أهم الخطوات التي اتبعتها الحكومة كان لنا لقاء مع إحدى الموظفات المعنيات بقطاع التشغيل في وزارة العمل في روما السيدة سيلفانا رومانو، أمدتنا مشكورة بمعلومات ضافية عن تأثير الأزمة.

ورد ضمن تصريحها: «من خلال تقييمنا لظاهرة البطالة بين الأجانب في هذه المرحلة الطويلة من الأزمة التي غدت مزمنة، والتي تمثل منعرجا خطيرا، وصل معدل البطالة في أوساط العمال الأجانب إلى أكثر من ثلاثين بالمائة في سنة 2013، وهي نسبة تفوق معدل البطالة بين الإيطاليين. وفي سؤالنا عن الجالية الأكثر تضررا في إيطاليا قالت هم المغاربة والألبان والرومانيون، بما أنهم الأكثر عددا في إيطاليا، تليهم جاليات أخرى قادمة من المغرب العربي وآسيا».

وأمام هذه الأعداد المرتفعة للعاطلين في أوساط الأجانب، قررت الحكومة الإيطالية التوقف عن جلب العمال الموسميين على أراضيها. والحقيقة أن إيطاليا في غنى عن استدعاء عمال أجانب من الخارج لوفرة العاطلين فيها. لذلك قررت الحكومة، التوقف نهائيا عن العمل ببرنامج تدفق المهاجرين الموسميين. حيث يجمع خبراء في قطاع التشغيل في وزارة العمل، حسب دراسات أجروها عن سوق الشغل، وتتعلق باليد العاملة الأجنبية أن زيادة البطالة في إيطاليا تعود إلى تدني الطلب على العمالة الأجنبية من قِبل الشركات، التي باتت تعاني النقص الحاد من تمويل البنوك بصفة دائمة مما أثر على أوضاعها. فكثير من تلك المؤسسات والشركات اختارت تغيير مقراتها، والتوجه إلى بلدان فيها يد عاملة أقل كلفة، وهربا من أداء الضرائب التي تثقل كاهلها. ويرى هؤلاء الخبراء أنه بات من الضروري التوقف الفوري عن سياسة جلب العمالة الأجنبية، وعلينا كما يقول أحدهم، أن نعيد إدماج العمال الأجانب الذين فقدوا عملهم بدل التفكير في جلب غيرهم. فمن الناحية الاقتصادية لا معنى لهذه العملية إذ سلبياتها أكثر من إيجابياتها. فقد وصل عدد المهاجرين الوافدين إلى إيطاليا سنة 2013 ربع مليون، ومن خلال تقييمنا للوضعية فإننا نستقبل المهاجرين غير الشرعيين الذين غايتهم الحصول على شغل وإقامة، وبذلك تفر العمالة الأجنبية القانونية التي تحوز خبرة بعد سنوات من العمل والإقامة.

هواجس الرحيل من إيطاليا

تورد إحصائيات أُجريت في أواخر السنة الماضية أن عدد الإيطاليين الذين يأملون في الإقامة بالخارج قد بلغ أكثر من مليون، وهي نسبة عالية في بلد أوروبي يعدّ من البلدان القوية اقتصاديا. ولا شك أن أثر سوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية على المواطن الإيطالي قد زاد من تأزم الوضع، وانعكس سلبا وبصورة مباشرة على الوافد الأجنبي. وقد سجلنا خلال قيامنا بهذا التقصي رغبة العديد من المهاجرين العرب في الرحيل عن إيطاليا، ومنهم من بدأ في الاستعداد الفعلي للعودة إلى أرض الوطن، أو الهجرة مجددا نحو بلدان أخرى، تخفف عليهم وطأة البطالة. وهذا ما لمسناه من إجابة كثيرين منهم، ممن قصّوا علينا رحلة الشتاء والصيف التي يعيشونها.

يوميات مهاجرين أضنتهم الغربة

يقول الكهل فريد البالغ من العمر 49 سنة، وهو تونسي أب لخمسة أبناء، زوجته عاطلة عن العمل، أنه من الأوائل الذين قرروا ترك إيطاليا منذ أن أطلت الأزمة برأسها. فقد كان يشتغل سمكريا لكن سوق العمل كسدت وبات مجبرا على الهجرة، فقرر العودة من حيث أتى إلى تونس الخضراء، ممنيا نفسه أن الربيع العربي سيفتح له الآفاق. سارع بالعودة إلى بلده وإذا بالأشهر والسنوات تتوالى دون أن يحرز أي تقدم في مستواه المعيشي. بات حلم الربيع العربي في بلده كابوسا، فسارع بالعودة إلى روما ولم يجد من سبيل للاندماج مجددا في سوق الشغل سوى توزيع بطاقات شخصية أمام مسجد ماركوني الواقع في إحدى ضواحي العاصمة، يشرح فيها نوعية الخدمة التي يقدمها، سعيا منه لتذكير الناس بأنه عاد، على حد قوله.

ويروي «محمد» البالغ من العمر 47 سنة، عن رحلته ما بين تونس وبلجيكا وفرنسا وإنجلترا بحثا عن العمل، وهو الحرفي في تبليط المحلات والمنازل، اشتغل في إيطاليا مدة عشرين سنة. عاد في نهاية المطاف إلى إيطاليا لأنه يملك بيتا متواضعا على سفح أحد جبال بلدة تيفولي في إقليم لاتسيو، ولم يتمكن من بيعه لأن الحكومة صادرت ملكيته لعدم دفعه الضرائب. يروي قائلا: «سجلت في مكتب الشغل في تيفولي، لكنهم اشترطوا علي الالتحاق بمقاعد الدراسة بغرض الحصول على دبلوم الابتدائية بما يؤهلني للعثور على عمل، فعدت مكرها إلى مقاعد الدراسة بعد أن بلغت من الكبر عتيا -مرددا مثلا شعبيا تونسيا «لما شابْ أخذوه إلى الكُتّابْ» - فما كنت أحسب أن حياتي ستنقلب رأسا على عقب جراء هذه الأزمة. فها أنا عاطل من جديد أحلم بالشغل والاستقرار، خصوصا وأن لدي عائلة، مما اضطرني إلى ترحيل أبنائي إلى تونس، وأن مستعد للعودة النهائية إلى تونس لو تيسر لي شغل كريم هناك».

أما جمال الجزائري الذي يبلغ من العمر 51، سنة فهو رب عائلة، سوّلت له نفسه التردد على الكنائس لطلب المساعدة من مأكل وملبس. يروي قائلا: «بدأت بلملمة أمتعتي للرحيل، فلو بقيت هنا سأموت كالجرذ، لا شغل لي ولا مسكن، سأعود إلى الجزائر حاملا بعض الأغراض لبيعها هناك، وفي الوقت نفسه سأغتنم المناسبة لأمكث مع والدتي العجوز وأتبرك بدعواتها، فقد توفي والدي دون أن أراه، كنت منقطعا عن أخبار الديار على مدى عشر سنوات قضيت جلها خلف القضبان في إيطاليا بسبب الطيش.

في حين أخبرنا مراد وهو من المغرب، أنه فَقد شغله الذي يتيح له الإقامة في إيطاليا، مما اضطره إلى مغادرة البلد والعودة إلى مراكش في المغرب. علما أن مراد هو من جملة كثيرين ممن سُحبت منهم أذون الإقامة بسبب فقدان الشغل. فالعديد من المهاجرين اضطروا إلى مغادرة إيطاليا لأن إقامتهم باتت غير شرعية فوق التراب الإيطالي. لكن بسيوني المصري الذي سافر إلى بلجيكا بحثا عن شغل، وجد نفسه وحيدا وبدون أصدقاء ولا يفقه لغة البلد، فضلاً عن صعوبة الاندماج في بلجيكا كما يروي، مما اضطره للعودة إلى «بوليا» في جنوب إيطاليا، ليواصل رعي الخنازير والعناية بعلفها مع صديقه المزارع فرانشيسكو. يقول بيومي: «لا يوجد عمل مناسب في إيطاليا، لكن العيش في بلد أعرف ناسه أيسر من المكوث في مكان أشعر فيه بالعزلة. فعلى الأقل هنا في بوليا أعرف أغلب المزارعين والناس يذكرونني بأهلي في البحيرة في مصر».

أمل في الموت في أرض الوطن

وكما يعاني المهاجر تعاني المهاجرة أيضا، بقيت حليمة التونسية التي تجاوزت العقد السادس بقليل وحيدة في مدينة بيروجيا، بعد أن غادر ابنها البيت متوجها إلى الدنمارك بغرض البحث عن شغل. فقد حاز دبلوم تقني في الآلات الكهرومنزلية. تقول إنها تكتفي ببعض الدراهم التي يرسلها ابنها، إذ كانت تعمل مساعدة لدى عجوز، تخلت عنها على إثر ارتفاع الضرائب في السنوات الأخيرة. وهي مع التغيرات الحاصلة في قانون التقاعد مجبرة على إتمام أربعين سنة شغلا للحصول على التقاعد وقد اشتغلت عشرين سنة فقط. تقول: أظن أني سأوارى الثرى قبل الحصول على التقاعد، فها أنا أجمع أمتعتي استعدادا لألفظ أنفاسي في ريف مدينة قفصة في الجنوب التونسي، بين أهلي وعشيرتي، يصلّون عليّ ويمشون في جنازتي، وهو أفضل من الموت في «أرض الروم»، بين الأوروبيين، في بلد عشت فيه غريبة ولا أود أن أموت فيه غريبة.

ولم يحالف الحظ امباركة، وهي سيدة من سيدي بوزيد، المدينة التي انطلقت منها شرارة الثورة التونسية، قررت الرحيل نحو فرنسا بعد أن مكثت في إيطاليا سنين عدة أملا في حياة أرقى وشغل محترم، لكنها تقول: «عدت أدراجي إلى إيطاليا بعد مكوثي مدة في باريس، فهي من الناحية المعيشية أغلى من نابولي الشبيهة بمدينة سيدي بوزيد، عدت إلى هنا بعد أن شدني الحنين إلى أكل الكباب العربي في نابولي. كنت آكله يوميا تقريبا بسعر مقبول، فأنا في نابولي هانئة البال أقطن في بيت عتيق مهجور، قمت باجتياحه مع مهاجرات مغربيات وجزائريات، حققنا فيه وحدة المغرب العربي في أرض الغربة. نحن هنا لا ندفع شيئا، وحتى السلطات الإيطالية غضّت الطرف عنا، ربما لأن المنزل على أطراف المدينة وقريب من إحدى الغابات.

سبل للتخفيف من حدة الأزمة

ومع تزايد عدد المهاجرين الذين فقدوا أشغالهم حاولت الحكومة الإيطالية إيجاد مخرج لهذه المشكلة. تقدمت وزيرة الاندماج الإيطالية، الكونغولية الأصل، السيدة كاشيتو كيانج بمقترح للحكومة بقصد عرضه على البرلمان الإيطالي، يتمثل في منح التقاعد المبكر للمهاجرين الذين يقررون العودة إلى بلدانهم. وفي اتصالنا بمكتب صندوق الضمان الاجتماعي المعني بمنح التقاعد، أخبرنا المدير ماركو أنسالدو أنه لو تمت المصادقة على مقترح الوزيرة الإفريقية، لحلت بنا كارثة.

وفي أحد مكاتب التشغيل في روما التقينا بجعفر وهو مهاجر من السودان، قصّ علينا رحلته المتواصلة من مكتب تشغيل إلى آخر في بحثه الدؤوب عن شغل. فبعد أن حصل على إذن إقامة مؤقت كلاجئ سياسي، بعد انتظار دام أكثر من سنة في مراكز الإيواء، كان مضطرا للعثور على عمل، فهو ينوي لمّ شمل عائلته المقيمة بأم درمان بالسودان، لكنه كما يشير قام خلال سنة بمختلف التربصات، كما طلبها منه مكتب التشغيل، بقصد تأهيله للعمل، لكنها لم تضمن له شيئا، فقد كانت هدرا للوقت كما يقول. وفي سؤالنا إحدى موظفات مكتب التشغيل بروما السيدة ماتيلدا عن نوعية طالبي العمل من المهاجرين قالت لنا: «إن أغلب القادمين لطلب العمل هم مهاجرون غير مؤهلين، أقصد لا يعرفون أي مهنة، وجلهم أمّيون، فقد صادفني العديد منهم تتعذر عليهم الكتابة والقراءة ولا يعرفون التحدث بالإيطالية، أتذكر امرأة عربية من مصر، تتحدث إيطالية لا أكاد أفهمها، مع أنها تقيم في إيطاليا منذ أكثر من عشرين سنة، جاءت لتبحث عن شغل في نزل.

تبدو حالة الهجرة العكسية من إيطاليا ظاهرة بارزة اليوم في ظل الأزمة التي باتت مزمنة، ذلك أن الخروج من النفق لا يبدو قريبا. وكما يقول مثل إيطالي: تفر كافة الجرذان من الباخرة إذا غرقت ويصحبهم في ذلك القبطان.