Saturday 08/02/2014 Issue 15108 السبت 08 ربيع الثاني 1435 العدد

التراث الفني الإسلامي في إيطاليا شاهد على عمق الروابط الثقافية بين الحضارتين

روما - من سهيلة طيبي:

تحتل إيطاليا موقعاً متفرّداً في العالم من حيث وفرة الأعمال الفنية. فهي من أوائل البلدان التي تضم سلسلة طويلة من المتاحف، تحوي أروع الأعمال الفنية العالمية بما ليس له نظير. وبحسب الإحصائيات الصادرة عن اليونسكو، فإن ثلاثين بالمئة من التراث الفني العالمي مودع في إيطاليا. ما يجعل هذا البلد بأسره بمثابة متحف كبير مشرع الأبواب. فحيثما ذهبت، في المدن الكبرى أو في البلدات الصغرى، القريبة من المراكز الحضارية أو النائية على سفوح الجبال، إلا وتجد متاحف فنية تضم كنوزاً وتحفاً في غاية الجمال. تروي تاريخ إيطاليا وتاريخ الحضارات العالمية التي مرت من هذا البلد، مثل الحضارة اليونانية والحضارة البيزنطية والحضارة الإسلامية.

ولئن يبدوالتراث الفني بالنسبة للإيطالي مما هو معتاد، فإن تلك الثروة بحق هي ميراث باهر وساحر للأجنبي، ونكاد ننفي تواجد زائر أو دارس أو شاعر، ممن حلوا بإيطاليا في السابق أو في الراهن، ولم يقع أي منهم في أسر وسحر الفن الإيطالي.كتب المؤرخ كواترومان للجنرال ميرندا أثناء حملة نابوليون بونابرت على إيطاليا قائلا: «إنك في متحف مشرع الأبواب، لا تتنعّم فيه فحسب بالجمال بل تُطوِّر فيه حاسة الذوق...»

ماض حضاري حافل

وضمن ودائع هذا المتحف الكبير العامر بالإبداعات، نجد جانبا مميزا يتعلق بالفنون الإسلامية وما ترويه عن ماض عريق ربط بين الحضارتين.وبشكل عام يمتاز التراث الفني الإسلامي في إيطاليا بتنوعه وبثراء مجالاته، لكن هذا التراث يبقى موزعا على مجمل التراب الإيطالي، وليس في صقلية أو البندقية فحسب، كما قد يتبادر إلى الأذهان، ربما أولى محاولات تجميع هذا التراث وفهرسته، وهو ما تم مع المؤرخ الإيطالي جوفاني كوراتولا، في المؤلف الصادر بعنوان: «ميراث الإسلام» عن دار النشر الإيطالية سيلفانا إديتوريالي، حيث وثّق لأكثر من ثلاثمئة عمل فني موزع في إيطاليا، تنوعت بين السيراميك والمنحوتات والأعمال الخشبية والسجاد والأعمال المذهبة والأيقونات، هذا فضلا عن آلاف الأعمال الفنية في مجال المنمنمات وفن الخط التي تعمّر المكتبات الإيطالية، والتي يبقى الكثير منه خارج الضبط.

تشهد على ذلك الحضور الفني بقايا آثار اللغة، وأسماء الأماكن والأعلام، وهو ما لا يزال منغرسا في أسماء المواقع وشائعا على الألسن، منتشرا في شتى الأمكنة، وإن خفي على غير الملمّ باللغتين العربية والإيطالية: فمن «مرسى علي» أو «مرسى الله»، صارت اليوم «مَرْسالا»، إلى «حلق القنطرة» التي تحولت في الحاضر إلى «ألْكنترا»، إلى مختلف الأماكن التي ضمت الجذر العربي لمفردة «قلعة»، والتي باتت «كالْتانيسيتّا»، و«كالْتابيلوتّا»، و«كالْتاجيروني»، و«كالْتافيمِي»، و«كالْشيبيتّا»، إلى «كانيكاتّي» أي «القطاع»، إلى «فافارا» المنحدرة من «فوّار»، العين الجارية، إلى «شاكّا» المتأتية من «السّاقية»، إلى «ألْكامو»، التي كانت تسميتها العربية «منزل القمح».

المخطوطات الفنية

كما تحوز إيطاليا ثروة فنية هائلة في مجال المنمنمات وفن الخط والمخطوطات، فقد بدأ تجميع الأعمال الفنية العربية منذ فترة مبكرة، منذ انعقاد مجمع الكنيسة في مدينة فلورنسا سنة 1441م، وهو المجمع الذي عقدته كنيسة روما؛ وكذلك مع عمليات تجميع المكتبة التاريخية ميديشيا لاورينسيانا في فلورنسا، سنة 1584م، للأعمال الفنية الإسلامية وللمخطوطات العلمية. يذكر المستشرق الإيطالي ريناتو ترايني في مؤلف: «ذخائر المخطوطات العربية في إيطاليا»، أن عدد المخطوطات العربية يناهز سبعة آلاف مخطوط. ونرجّح أن العدد الحقيقي يفوق ذلك، لأن العديد من المكتبات الإيطالية لم يشملها الجرد حتى التاريخ الحاضر، رغم أنها تشير في فهارسها إلى احتضانها لمخطوطات عربية، حيث تعدّ مكتبة الفاتيكان بروما ومكتبة أمبروزيانا في ميلانو الأبرز من حيث احتواء رفوفها ثروة المخطوطات العربية، وفي خضم هذه الثروة تُعتبر الأعمال الفنية القرآنية من أثمن وأجود ما نجده في إيطاليا، حيث تُصنَّف مخطوطات مصاحف القرآن الكريم في مكتبة الفاتيكان ضمن النفائس النادرة، التي لا تُقدّر بثمن، وتبلغ أعدادها ما يناهز المئة وخمسين مصحفا مخطوطا، وأبرز المخطوطات القرآنية وأجملها ترد من بلاد المغرب، وهي مخطوطات موشاة بالذهب والفضة، متقنة الإنجاز ومصنوعة ببراعة عالية، وردكثير منها من جامع الزيتونة المعمور في تونس ومن القرويين في المغرب ومن الأندلس.

الكابيلا بلاتينا في باليرمو آية جمالية عربية

يعد سقف الكابيلا بلاتينا في باليرمو أبرز ما تبقى من التراث الفني الإسلامي، وهو عمل يعبر عن فصل مهمّ من فصول تاريخ التصوير الإسلامي في إيطاليا. يتعلق العمل بتصاوير توشح السقف الخشبي لكنيسة البلاتينا الواقعة في باليرمو. هذه الكنيسة التي شُيِّدت بأمر من الملك النورماني روجر الثاني (1130-1154م)، والتي تم افتتاحها سنة 1143م بقيت شاهدة إلى اليوم على براعة الفنانين المسلمين. فرسوم الكابيلا بلاتينا هي أجمل ما تبقى من إنجازات الحقبة الفاطمية. أقرّ المؤرخ الفني غروبي أن العلاقات المتينة التي ربطت نورمان صقلية بالخلفاء الفاطميين، كانت العامل الرئيس وراء إنتاج هذه التحفة الفنية. فقد لعبت العلاقات المتينة بين الدولتين دورا مهما في جلب الفنانين والمهندسين والبنائين المسلمين لإنجاز ذلك العمل، ويؤكد غروب أن كثيرا مما يلوح من رسوم السقف لم توظف الفن الأيقوني الشائع في العالم الإسلامي في العصر الوسيط فحسب، بل وظفت تراثا فنيا آخر واردا من أرجاء عدة من العالم. ذلك أن مواضيع التصاوير التي وقع عليها الاختيار لتزويق سقف الكابيلا بلاتينا والدومو دي شيفالو، هي رسوم قد تجاوزت أسلوب الرسوم الواردة في البلاطات الإسلامية.

باليرمو مدينة الثلاثمئة مسجد

باليرمو هذه المدينة التاريخية الواقعة في صقلية، والتي يرد ذكرها لدى العرب باسم «بالرم»، وقد كانت سابقا في العصور الإغريقية تعرف بـ»بانُورْموس»، كانت حاضرة البلاط و»مدينة الثلاثمئة مسجد»، كما نعتها الرحالة العربي ابن حوقل في الحقبة النورمانية، في إحدى آثاره التي تعود إلى سنة 973م. لا تزال هذه المدينة تختزن العديد من الآثار الفنية الإسلامية التي لا تخطئها العين.

فحين ذهب الإمبراطور فيدريكو الثاني إلى روما قادما من باليرمو عبّر الرجل عن عمق انفتاحه على الروح الفنية الإسلامية. يوم مجيئه إلى روما كان مرتديا زيا إمبراطوريا شرقيا، ارتداه لتسلّم التاج من الكرسي الرسولي، من البابا، وهو بشكل مّا علامة على الانفتاح الثقافي؛ كان اللباس موشّى بالأحرف العربية على أطرافه، كما حوى كتابة تشير إلى مأتاه، المصنع الملكي في باليرمو، وتاريخ العام 511م، وبالتأكيد العائد للتقويم الذي يرتبط بهجرة النبي محمّد (-صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة. وبالتقويم نفسه، وفي بعض الفترات من الحكم النورماني، ضربت كذلك النقود الإمبراطورية: مباشرة بعد استعادة باليرمو، ضرب روبارتو غويسكاردو قطعا ذهبية بالخط الكوفي تضمنت التاريخ الهجري؛ فقط مع روجير الثاني أُدخلت الرموز المسيحية، لكن تم الاحتفاظ بالكتابة العربية وبالتاريخ الهجري، وكأن التفكير في انطلاق التاريخ الحقيقي لصقلية منذ ذلك العهد.

في إيطاليا في الراهن، يشهد مجال الفن الإسلامي اهتماما أكاديميا لافتا، حيث تعددت الجامعات التي تدرس تاريخ الفن الإسلامي ومنجزاته، مثل جامعة «الأورينتالي» في نابولي، وجامعة «لاسابيينسا» في روما، وجامعة «كافوسكري» في البندقية، وجامعة الدراسات في أوديني، وهو ما شجع دور النشر على إصدار جملة من الأعمال التي تناولت الأعمال الفنية الإسلامية ولاسيما في مجال المنمنمات والمخطوطات.