Monday 10/02/2014 Issue 15110 الأثنين 10 ربيع الثاني 1435 العدد
10-02-2014

في تفسير الحالة الداعشية 2-2

النظريات في تفسير ظاهرة العنف تتخذ عادةً طريقتين. الأولى تنظر من فوق إلى أسفل عبر البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي المسبب للتطرف والعنف. والأخرى تنظر من أسفل إلى فوق، في جذور الحالة عبر دوافعها الانفاعلية والعلاقات بين الأفراد والجماعات وخلفياتهم ونفسياتهم..

في الطريقة الثانية لنأخذ مثال الشاب النيجيري عمر عبد المطلب المتهم بمحاولة تفجير طائرة الركاب الأمريكية عام 2009، الذي كتب بالإنترنت قبل أربع سنوات من الحادثة: «إنني في وضع لا أجد فيه أي صديق، أي شخص أتحدث إليه، أي شخص أشاوره، أي شخص يساندني، وأشعر بالإحباط والوحدة.. لا أعرف ماذا سأفعل..» (فرانس برس). ونقلت صحيفة صندي تايمز عن مسؤولين قولهم إن عبد المطلب كان على اتصال بمتطرفين كان جهاز الأمن البريطاني يراقبهم. وأفاد بيان وضع على الإنترنت بأن تنظيم القاعدة أعلن أنه مسؤول عن هذه المحاولة الفاشلة لتفجير الطائرة.

أشباه هذا المثال كثيرة، مما يدعم فرضية الباحث الأمريكي روبرت بيب المستند على أدلة مادية قوية بأن العمليات الإرهابية ليست نتيجة الإمدادات الخطابية من المتعصبين الدينيين، بل هي «ظاهرة يحركها الطلب»، وهي تكتيك دنيوي أكثر منه ديني، (تم تناولها بالجزء الأول).

أما في الطريقة الأولى لتفسير ظاهرة العنف فسبق للمفكر الفرنسي بوديريار أن كرر بأن العمل الجهادي هو عمل دنيوي كأحد أشكال العولمة المضادة.. ذاكراً أثناء الغزو الأمريكي على العراق أن العولمة أنتجت الإرهاب وصنعت قاعدة بن لادن، ليس عن طريق المؤامرة أو التواطؤ أو خطة مسبقة، بل أن شبكة العولمة بهيمنتها وسلطتها أنشأت الشروط الموضوعية لهذه الأعمال الإرهابية، وهو إرهاب ضد إرهاب، فليس ثمة إيديولوجيا أو قضية واضحة لكلا الطرفين، سوى أن النظام العالمي الجديد بعد نهاية الحرب الباردة. العولمة لا تصنع التطرف لكنها لا تقاومه كما ينبغي..

كيف تسبب العولمة التطرف؟ توضح الدراسات الأخيرة أنّ التطرف مرتبطة بالثقافة أكثر من الاقتصاد. فالخوف من تهديد الثقافات الجديدة للمهاجرين على الهوية الوطنية ونمط المعيشة كان هو الدافع الحاسم في انتشار وشعبية الأحزاب القومية المتطرّفة في أوربا، وليس سوء الأوضاع الاقتصادية أو الانزعاج من منافسة المهاجرين على الوظائف (تقرير دار شاتام، 2012). وتوضح إحدى الدراسات أنه باختبار العوامل التي تؤثر في موقف العموم من المهاجرين، وجدت أنّ القلق على الوحدة الثقافية للبلد كان تسعة أضعاف حجم القلق من الجريمة، وخمسة أضعاف القلق على الاقتصاد القومي (Ford الجزيرة Goodwin, 2010). فأساس التطرُّف، هنا، خوف على الهوية في زمن العولمة، حيث تتداخل الدول والمجتمعات وثقافاتها، محدثة تنوُّعاً ثقافياً وعرقياً يهدد الثقافات المحلية..

ماذا يعني الخوف من خسارة الهوية؟ من الناحية النفسية تذكر الدراسات الكلاسيكية أنّ التطرُّف يشكِّل متنفساً لمشاعر عاطفية حادة ناجمة عن الحالات المستمرة من الشعور بالظلم والخسارة وانعدام الأمن والإذلال والاستياء والغضب، مما يفترض أن تؤدي بالأفراد والجماعات إلى الدخول في صراع مع الآخرين، يوازن أو يتفق مع تلك الحالات العاطفية الحادة (كولمان وبارتولي).

لكن ماذا عن داعش التي زايدت في تطرفها على القاعدة وهي فرع منها؟ الدكتور عبد السلام الوائل طرح مفهوم «القابلية للاستدعاش» قاصدا بها «المقاييس والقيم التي ضخخناها داخل أدمغة أبنائنا فجعلناهم، حين تُحرِّكهم عوامل الحمية، ينشدّون لأكثر التنظيمات تطرفاً وأبعدها عن المدنية وأقلها احتراماً للحياة الإنسانية.»؛ داعياً إلى البدء في مراجعة جذرية للمنظور السلفي تقطع بين ذلك الخطاب وشرعنة الظاهرة الإرهابية. لكن ثمة اعتراض على هذا الطرح عبر عنه سلطان العامر وعبدالله القصير، بعدم الربط بين خطابنا التعليمي والحالة الداعشية، بدليل تقديرات معهد واشنطن للمقاتلين الأجانب في سوريا الذي يضع تقديرات متقاربة لكل من السعوديين ومن القادمين من دول أخرى. الوايل لا يعترض على هذا الرفض لكنه يرى أهمية تفسير علاقتنا المحددة والخاصة بتلك الحالة أكثر من التنظير العام لتفسيرها.

أما الدكتور عبد الرحمن الوابلي فلا يرى أن الظاهرة تنحصر بالفكر المحافظ المتشدد في مجتمعنا بل كافة التيارات الأخرى، وهي ليست وليدة الحرب الطاحنة بسوريا فلشبابنا سوابق بدول أخرى.. «هنالك جو اجتماعي وثقافي ونفسي ومادي عام يحتضنها ويغذيها وهي كامنة؛ ويخرجها ويؤججها متى ما قرعت طبول الحرب..»؛ وكذلك «دورنا الفاعل نحن أيضاً ككتاب وإعلاميين في إذكاء هذه الظاهرة..» طارحاً مسألة التأجيج الطائفي باعتباره «أخطر المواد المسعرة للنفير العام؛ فعن طريقها استنفر الشباب، لا عن طريق الحرص على الديموقراطية ولا إعجابا بمبادئ المجتمع المدني في سورية ولا صيانة لحقوق الإنسان..»

إذا قلنا أن ثمة طلب عاطفي على التطرف (الديني والدنيوي) وهناك عرض سخي من دعاة التطرف، فهناك أيضاً وسيط إلكتروني خارق: إنه الإنترنت الذي يوفر مساحة لا محدودة ولا مشروطة من النقاش وتداول المعلومات لجماعات متفرقة حول العالم. وهنا تشير العديد من الدراسات والتقارير إلى نجاح تنظيمات العنف في استغلال الإنترنت لنشر أفكارها وتحقيق التواصل بين منظماتها ونقل المعرفة الخاصة بكيفية تصنيع المتفجرات وجمع التبرعات. يقول رئيس وكالة استخبارات الإنتربول الأوروبية: «أن التهديد الإرهابي عالمي، وإنه ظاهر وهو على عتبات أبوابنا... كان هناك 12 موقعاً إلكترونياً في عام 1998 وقفز إلى 4500 بحلول عام 2006. وفي تقرير لمجلس الشيوخ الأمريكي أظهر القلق من تعرض المواطنين الأمريكيين لتلك المواقع، محدداً أربع مراحل تشكل حالة التطرف التي قد يخضع لها أي شاب غرّ وتائه يتجول في مواقع تنظيم القاعدة. وهي: مرحلة ما قبل التطرف ثم مرحلة تحديد الذات (فقد الهوية واعتناق الفكر الأصولي)، ثم مرحلة التلقين وغسيل المخ، وأخيرا مرحلة الجهاد.

لنجمع العوامل المذكورة آنفاً في كتلة واحدة مستفيدين من كلا الطريقتين (المذكورتين في المقدمة) في تفسير ظاهرة العنف: شاب تائه بحالة نفسية مرتبكة، لديه تعليم تلقيني ذو خطاب قطعي وله خلفية ثقافية يقينية، يبحث عن هويته في ظل الاغتراب الذي تنتجه العولمة الرأسمالية ونمطها الاقتصادي المجحف، مع تيارات فكرية متلاطمة وبينهم دعاة التطرف؛ غالباً سيجد طريقه للفكر المعتدل لأنه الأكثر اقناعاً، لكنه ثمة قلَّة ستجده في موقع آخر مدمِر يوفره بسخاء الإنترنت..

alhebib@yahoo.com

مقالات أخرى للكاتب