Saturday 15/02/2014 Issue 15115 السبت 15 ربيع الثاني 1435 العدد
15-02-2014

القيم والحوار

أصدرنا تحت إشرافنا المتواضع في السنوات الأخيرة العديد من الكتب عن تحالف الحضارات والتنوع الثقافي باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية؛ وتوقف الكتاب فيها عند العديد من المواضيع الهامة

وعلى رأسها القيم، كما تناولها الأستاذ محمد علي والأستاذ زيادة والأستاذ غليون...فقد لا نجد أنفسنا بحاجة إلى إعطاء تعريف لهذه القيم ولكن شيئا من التوضيح ضروري في هذا المجال كما يكتب الأستاذ محمد علي. إن المراد بالقيم ليس تلك التي يؤدي إليها التعبير اللفظي (أي الأشياء التي يقيمها الإنسان ويحترمها بل المراد منها معنى أدق وهو(الأمور التي ينطلق الإنسان من ذاته أو من ركائز عقيدته ليعطيها قيما معنوية مطلقة تؤثر من خلالها على كل مسيرته الحياتية).

وبهذا يمكن القول إن دور الإيمان، أو عدم الإيمان بهذه القيم كبير جداً في الحياة الحضارية للإنسان. بل يمكن قياس مدى تحضر أي مجتمع بمدى علو قيمه المطلقة التي يؤمن بها. فإذا فقد أي مجتمع الإيمان بقيم مطلقة فهو لا محالة سوف يفقد صفته الإنسانية، لأن هذه الصفة تلازم هذا الإيمان، ولم يعد قادراً على التعامل مع الواقع، ولا الإبداع في تطويره، لأنه لا يمتلك أية صورة عن منطلقه، ولا عن مصيره ولا عن معالم ثابتة في مسيرته بين (المبتدأ) و(المنتهى)، وبالتالي لا يملك أية روابط تنظم حركته وتربطها بالكون والوجود، وإنما هو متحرك ضائع في عشوائية وهباء.

ومن هنا نجده يطلق لذاتيته العنان، فيقتل ويسلب ويفجر دونما أي رادع. فعدم الإيمان بالمطلق من أكبر علل الدمار والإجرام والضياع. كما أن الإيمان (بالقيم الوهمية، أو النسبية) لا يقل تدميراً لحياة الإنسان عن حالة عدم الإيمان بأية قيم. وهذه حقيقة صادقة على كل الآلهة التي صنعها الإنسان عبر التاريخ، سواء ما صنعه الإنسان في المرحلة الوثنية من العبادة، أو في المراحل التالية، فمن القبيلة إلى العلم نجد سلسلة من الآلهة التي أعاقت الإنسان بتأليهها والتعامل معها كمطلق عن التقدم الصالح.

وكيفما عرفنا الحضارة فإنه يجب أن نقر بأن الصفة الإنسانية - بمعنى امتلاك الاتجاه العام لخدمة الإنسان وتطوير إمكاناته الذاتية والعرضية - هي أهم مقوماتها بلا ريب. ولا يمكن أن يتسم أي مذهب أو تخطيط أو حتى مجرد سلوك بالسمة الحضارية إلا إذا اتسم بالصفة الإنسانية.

والصفة الإنسانية، عبر إدراكات الوجدان، وبلا حاجة إلى استدلال، تلازم الإيمان بمجموعة من القيم المطلقة والمشتركة، فلا يمكن أن نفترض النسبية في كل شيء ثم نفترض وجود خصائص إنسانية فإن ذلك يستبطن نوعاً من التناقض مفاده: الاعتراف - من جهة - بأن الإنسان له هويته المتفردة جزئياً - إن لم يكن التفرد كلياً - ورفض أي تمايز إنساني أو قيمة ثابتة فيه من جهة أخرى.

والسمة الثابتة المميزة هنا هي الفطرة الإنسانية. والمقصود بالفطرة هو أن الإنسان مخلوق إلهي أودعت الحكمة الإلهية في وجوده وطينته الأصلية مجموعة من القضايا البديهية والقدرات العقلية والميول والغرائز التي تضمن له سيراً طبيعياً نحو تكامله المرسوم له.

أما القضايا البديهية فهي التي تمنحه القدرة على المعرفة: معرفة نفسه ومعرفة الكون والواقع، وفلسفة الوجود والعلاقات القائمة بين الأشياء وتلك من قبيل: الإيمان بمبدأ العلية، والإيمان بمبدأ استحالة التناقض (الجمع بين النقيضين، وارتفاع النقيضين) و(بعض القضايا الأخرى) فهذه قضايا مغروزة في القناعة والوجدان الإنساني لا يحتاج للاستدلال عليها وإلا دخل في طريق مسدود لأنّ الاستدلال نفسه يتوقف عليها كما هو واضح.

أما القدرات العقلية فهي نفس قدرة النفس الإنسانية على التأمل والتفكير وتجريد القضايا من ملابساتها والصعود من مرحلة الجزئيات إلى مرحلة الكليات، والقيام بقياس الأشياء للوصول إلى تصورات جديدة والتخطيط الذهني لمراحل غير موجودة على صعيد الواقع القائم. إن هذه القدرة الذهنية هي من مختصات الإنسان وهي سرّ مسيرته التكاملية وإبداعه ونموّه.

وأما الميول الغريزية فهي التي تقوده نحو كماله وتدفعه للاستفادة من طاقاته في هذا المجال. ومن هذه الميول: ميله نحو الكمال، والسير نحو الكمال المطلق، ومحاولة سد جوانب العجز في وجوده، والركون إلى هذا المطلق القادر وأداء حقه وشكر نعمه والقيام بحق طاعته - فهذه أمور يجدها الإنسان مغروزة في الطينة الإنسانية وإن اختلفت تجلياتها وتعددت أساليبها

وعلى هذا فالذي يبدو لنا بكل وضوح أيضا أن مسألة الإيمان بنظرية الفطرة الإنسانية يفسح المجال للحديث عن جملة مفاهيم من قبيل مفاهيم (الحقوق) و(التكاليف) و(العدالة) و(الإنسانية) و(الأخلاق) و(الذوق الفني العام) و(القيم المشتركة) و(الحضارة) و(الحوار) و(الدين) و(المعرفة) و(التصديق) و(المنطق) بل وحتى (البرهان والاستدلال) و(العلم) لأنهما يعتمدان على عنصر ثابت بدونه لا تسلم لهما حدود ومعالم.

وبذلك فان الإيمان بهذا كله هو نوع من توازن المصالح القيمية وهو الذي يفرض نوع الحوار أو حتى قيامه أساساً كما يكتب الأستاذ زيادة، فالتجاور المنسجم يكمن في اعتدال القوى المتنازعة والتجانس البنيوي بين الأفكار المتصارعة، وإذا كان التفكير اليوم ينصب في الحضارة العالمية كما سماها هنتنغتون أو الحضارة المشتركة، فعلينا أن نسهم جميعاً في العمل على بنائها وصنعها، وذلك لن يتم إلا بالحوار المؤسس على الشراكة. وإذا كان البعض لا يرى في حوار الحضارات إلا شكلاً من أشكال الالتفاف على الصراع بين ثقافات مفترض أنها متساوية، فلذلك «يجب الانتقال من إشكالية حوار الثقافات إلى إشكالية الحوار بين المصائر الثقافية ومستقبل الثقافة البشرية أو فرص تثقيف الجماعات الإنسانية ووسائل حماية الثقافات المحلية»، فإن بين (التثقيف) أو (وسائل الحماية) فجوة لن يردمها إلا الحوار، هذا الحوار الذي كان بمثابة مفتاح للنهضة والتجدد الذاتي ومجالاً لخلق قوى جديدة كما عبر عن ذلك داريوش شايغان.

إن تحقيق حوار حقيقي بين الحضارات يقتضي أولاً تأسيس لغة تستوعب المختلف ولا ترفضه أو تنبذه، أما إذا بقيت لهجة الاستعلاء حاضرة بما تعنيه من مصادرة الثقافات والحضارات الأخرى مسبقاً بحجة الوصاية عليها (نحن عمالقة ولهذا نرى أبعد مما ترى الأمم الأخرى) كما قالت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، أو كما عبر هنتنغتون (إن الغرب ينفرد بتوليفة خاصة، وهي التي منحته خاصيته المتميزة) ، وكما نجد لدى الطرف الآخر (إن العالم الإسلامي هو الوحيد الذي يملك ورقة تعريف بهوية خاصة، يستطيع أن يطرق باب الحوار لينفتح له، وهو وحده الذي يتوفر على نمط حياة شامل يمكن أن يستطيع أن يقدم البديل المفتقد) ، إذا بقي مثل هذا الجو المشحون بهاجس الصراع ومفرّغاً في خطاب النفي للآخر فإن الحوار عندها يبقى مجرد ألهية أو تسلية نرفعه عندما نكون بحاجة إلى استثمار مدلوله الرمزي.

ومن المفترض أيضاً أن يعي كل طرف أن دخوله إلى ساحة الحوار لا يعني مطلقاً ضرورة تعميمه لأفكاره على كل الحضارات الأخرى، فيجب الوعي بالتكافؤ والتساوي للحضارات والثقافات جميعها بما يمنع أفضلية أو ميزة حضارة على أخرى، وبما يكبح جماح شهوتها في السيطرة وامتلاك ثقافات الآخرين بحجة أن قامتها الأعلى وأنها انفردت بسمات ثقافية وحضارية مميزة.

من دون ذلك ستظل كل دعوة إلى الحوار مفرغة من مضمونها ولا قيمة عملية لها.

مقالات أخرى للكاتب