Saturday 15/02/2014 Issue 15115 السبت 15 ربيع الثاني 1435 العدد
15-02-2014

الطالبانيون في الدولة السعودية الحديثة

تناقل تويتر صورة من خبر نقلته نيويورك تايمز قبل خمسين عاما تقريبا فيه صورة للشهيد الفيصل رحمه الله مع تعليق جاء فيه: «تجمع قادة من رجال الدين والأساتذة والقضاة عند الأمير فيصل في جدة، معترضين على ظهور صوت المرأة في الراديو الرسمي، واصفين ذلك بأنه تصرف مُخجل. وبعد أن استمع الأمير فيصل -الملك فيما بعد- لكل مُتحدث منهم قال معلنا إنه قد طلب العلم الشرعي الإسلامي مثل كل فرد منهم، ثم استشهد بالأحاديث». والصورة لا تُظهر الخبر أبعد من هذا. ولكن بقية الخبر معروفة. فقد أفحمهم الشهيد الفيصل بالحجة الشرعية والعقلية، وبحزم السلطة الحكومية المسلمة. وخلاصة الفكرة المفهومة من رد الشهيد هو أنه ليس في الإسلام حكومة إسلامية بل حكومة مسلمة. (وهذا جامع ما ذكرته كثيرا في مقالاتي الماضية ولن أعيد هنا).

زمن الشهيد الفيصل -رحمه الله - كان زمن تأسيس الدولة السعودية المدنية، وفيها ما لم يعتده الناس، ولذا فقد كان للشهيد مواقف كثيرة مشهودة في وأد بذور التطرف والإرهاب، وتطهير الدولة والمجتمع مما علق فيها من فِكر تطرف المتطرفين الذين خرجوا على المؤسس الأول رحمه الله، بعد توحيده للبلاد.

وقد رحل الشهيد الفيصل بعد أن سلم البلاد وهي خالية من التطرف مع أنهار من الثروات. وعاشت البلاد عصرها الذهبي بعده رحمه الله حتى نسيت أخطار التطرف، وكأن السبلة لم تكن. وجاءت فتنة جهيمان منبهة ومحذرة، لكن محاولة تصدير ثورة الشيطان الأكبر في إيران تحت التلاعب بالعواطف الدينية وانخفاض عوائد البترول، خلق نوعا من الحاجة للتجاوز والتسامح عن التطرف الديني. والتطرف الديني من أخطر التهديدات للمجتمع والدولة ومن أشدها فتكا وقوة ومن أقلها عقلا وحكمة، «ومن يجعل الضرغام بازا لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا».

وكان حادث الحادي عشر من سبتمبر أول باكورة ظهور نتائج هذا التسامح، وهو وإن كان خارجياً إلا أنه ذو آثار داخلية مهمة وإستراتيجية. وأنا لا أقصد هنا الإرهاب الداخلي كالتفجيرات ونحوها، بل التعاطف الشعبي لبعض الشارع السعودي مع المنفذين لحادث سبتمبر. وتعاطف الشارع مع منفذي حادث سبتمبر، ما كان له أن يحدث لو أنه اتخذت حلول توعية ونظامية بشأنه. فقد أصبح يُتهم بالخيانة والتبعية كل من يحاول أن يُجرم منفذي الحادث في المجالس والاستراحات. (وهذا التعاطف هو الذي قلب الشارع الأمريكي إعلاميا وشعبيا ضد السعودية والإسلام، بعد عامين كان فيها الشارع الأمريكي مدافعا عن الإسلام والمسلمين ومبرئا لهم).

والتعاطف الذي حدث مع منفذي حادث سبتمبر قد كان له آثار ثقافية اجتماعية خلقت تعاطفاً مع أي حركات ثورية أو إرهابية أو إجرامية أو دموية لا فرق ما دام أنها تحمل الإسلام شعارا لها. حتى أصبحت السعودية والدعوة السلفية الوهابية مع الأسف هي المُتهمة بالإرهاب وتفريخه، ووقعت البلاد في إحراجات ومضايق كثيرة على الصعيد السياسي العالمي فضلا عن الالام والمشاكل المحلية.

إن الأمر الملكي بتجريم وعقاب التعاطف مع أي إرهاب سواء أكان ممثلا في منظمة أو في فرد، هو المرحلة الفكرية الثالثة لتأسيس الدولة السعودية المدنية الحديثة. فالأولى جاءت بعد توحيد البلاد على يد المؤسس الأول رحمه الله. والثانية على يد الشهيد الفيصل -رحمه الله- بعد تأسيس الدولة المدنية. وهذه الثالثة تأتي كتمهيد لانطلاقة الدولة الحديثة، على يد الملك الصالح حفظه الله، كما حفظ أمانة حُكم هذه البلاد.

فقد كثرت هذه الأيام المزايدات على دين الله وذلك في انتهاز كل فرصة تسنح أو تُصطنع في سقطة تعبير في تويتر أو مقالة لامرأة أو جاهل أو كاتب، لتحريك حملات تُزايد على الدين، وتدعو إلى المحاكمة. وليس الخوف من المحاكمة، بل أهلا وسهلا بها، و يا ليتها تقوم فهي التي ستفضح هذه المزايدات، ولكنها مجرد تهويشات من أجل إيهام الناس بتبعية القضاء للمتطرفين. فالمسكوت عنه في مقصد من يُحركها ( ثم يتبعه القطيع بعد ذلك دون معرفة) هو إرهاب الناس بالإيحاء لهم بأن للتطرف سلطة فعالة في البلاد. فهم بدعوى طلب المحاكمات يريدون أن يلقوا في روع الناس بأن السلطة القضائية في أيديهم، فلا ينازعهم أحد إلا وأخذوه للقضاء، لأن القضاء سيحكم لهم - أي للمتطرفين-. وهذا التصور وإن كان خاطئا، إلا أنه للأسف هو المُنتشر في روع الناس. وأقول للناس، إن القضاء ليس كما يُصوره هؤلاء، وما هي إلا شائعات لزرع الوهم يبثه أمثال هؤلاء في مزايداتهم وتمثيلياتهم التي يقومون بها من حين لآخر. ويأتي إعلاميون في قنوات تلفزيونية يطيرون بهؤلاء في العجة، ليحصدوا مشاهدات جماهيرية التي يُوحى في روعها الخوف منهم بسبب القضاء « الذين يعتقدون أنه معهم».

وقد ظهرت مزايدات أخرى لتوجيه التعاطف مع الإرهابيين في الخارج إلى الداخل، بدعوى المزايدة على محاربة الإلحاد، وهو ما أشار إليه أستاذنا قينان الغامدي في مقال له. (وهذا يحتاج وقفة أخرى)، ولكن إن كان هناك إلحاد فإن سببه هؤلاء الطالبانيون السعوديون الجدد الذين يريدون أن يمشوا في الناس كما كان يمشي أتباع طالبان في كابول، والشبيحة في سورية والفتوات في مصر، وأنى لهم.

نحن في فترة انطلاقة الدولة السعودية الحديثة، فلا ينبغي أن يُتهاون ولا أن يُترك لهم هذا التحزُب بدعوى الدين ولا يُسكت عن تهويشهم وتخويفهم الناس وتشكيكهم في قضائهم. من دعا إلى محاكمة فليؤخذ إليها هو أيضا مع من ادعى عليه، فإن بطلت دعواه فليحكم عليه بدعوى القذف وليكن فيها قرار واضح، لكي يعرف الناس نزاهة القضاء، وأنه ليس تحت سلطة هؤلاء، كما خيلوا للناس بمزايداتهم.

وتضيق مساحة المقال بما في فمي من ماء، فاتركوا عنكم التسلط، والمزايدات الطالبانية وإشغال البلاد بثقافة الفتوات والبلطجة، فبلادنا على أعتاب الانطلاقة لتأسيس الدولة السعودية الحديثة، وعوا معنى مفهوم رد الشهيد الفيصل: ليس في الإسلام حكومة إسلامية بل حكومة مسلمة.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب