Wednesday 19/02/2014 Issue 15119 الاربعاء 19 ربيع الثاني 1435 العدد
د.فوزية أبو خالد

د.فوزية أبو خالد

تفاصيل يومية في التجربة الدراسية

19-02-2014

صداقات عبر العمر عابرة للقارات

لن أختم هذا الجزء من رحلتي الدراسية بأمريكا دون التوقف عند أحد الأبعاد الهامة لتلك التجربة وهو البعد المتمثل في الجانب المعيشي لحياتي الطلابية في تفاصيلها اليومية من خلال تفاعلي اليومي مع الأشخاص والأحداث على مستوى المشاعر والمواقف.

كان أول بيت أمريكي أدخله بمدينة بورتلاند بولاية أوريجن بالشمال الغربي, هو بيت المشرفة الطلابية على الطلبة الدوليين أو ما يسمى بـ«الإنترناشونال ستيودينت». وكانت قد قدمت لنا نفسها مساها الله بالخير إبان أول لقاء بمكتبها باسم، «مسز دايمن» إلى أن تتطور الوضع لاحقا وصار اسمها الحركي لدى الطلاب والطالبات العرب تحديدا «الست الماظة» .

دعتني «السيدة دايمن» أنا وعددا صغيرا من الطلاب للعشاء عندها في نهاية أول أسبوع لوصولي إلى بورتلاند. كان بيتها يقع على تلة من تلال ما يعرف بمنطقة بفرتون، وكان بيتا صغيرا وأنيقا مليئا بالتحف والتماثيل والمشغولات والإكسسوارات من شتى أنحاء العالم، ولم يكن صعبا أن أسبر مصدر تنوعها طالما أن السيدة المضيفة تتعامل مع ذلك العدد المتنوع من طلاب العالم. استقبلتنا وزوجها واثنين من أبنائها (بنت وولد) اللذين كانا يبدوان في نفس أعمارنا. وقد دعانا مضيفونا بمجرد وصولنا إلى المشاركة في إعداد طعام العشاء التي تنوعت أطباقها لمفاجأتي بين الحمص وما يشبه التبولة مع طبق رئيسي من الأرز يشبه الكبسة ولم يكن إلا طبق «البيلاة» الأسباني. كانت الخارطة ضيف رئيسي في ذلك اللقاء حيث قام كل منا بتحديد موقع وطنه الجغرافي مع حديث مشوب بالحنين عنه. لم أستطع أن أخفي استغرابي من تواجد أبنائهما معهما في استقبالنا وانغماسهما في الضيافة من مد المائدة إلى غسل الأطباق وعمل القهوة الأمريكية المصفاء «المفلترة» برائحتها الفواحة التي لاحقتنا عدة أيام بعد تلك الزيارة, ومحاولتهما مد جسور اللغة بيننا. وقد حرصت حينها على توضيح سبب استغرابي وتساؤلي من وجود أبنائهما معهما في ضيافتنا بمصارحتهم بأن الانطباع السائد لدينا عن المجتمع الأمريكي أنهم يشرعون الباب للأبناء ليغادروا المنزل دون رجعة إلا في الأعياد بمجرد بلوغهم الثامنة عشر. ولمزيد من توضيح وجهة نظري استشهدت حينها بكتاب أستاذ علم الاجتماع الأمريكي السوري هشام الشرابي الذي يحلل فيه الفارق الحضاري بشيء من المفاضلة بين تبعية العائلة العربية لعلاقات القرابة وبين استقلالية العلاقات العائلية بالمجتمع الأمريكي والغربي عموما وضراوة الفردية فيها الخ. فلم تحار «السيدة دايمن» جوابا، بل أعطتني إجابة وجدت فيها بلسما لكثير من جروح الصدمات الحضارية الصغيرة أو حتى الكبيرة التي كنت أتعرض لها بين الحين والآخر خاصة في بدايات حياتي الدراسية بأمريكا ومواجهتي للكثير من الاختلافات القيمية والسلوكية. فلم تقم «السيدة دايمن» وأسرتها بالدفاع عن الموقف لا سلبا ولا إيجابا, ولم تعتبر قولي مدحا لحميمية العلاقات الأسرية بالمجتمع الأمريكي ولا ذما لفرديته أو العكس. ولذا فإني أذكر تماما ما قالته تلك السيدة حتى بعد أن مضى على ذلك اللقاء ما يزيد على ربع قرن فقد قالت ببساطة, «المسبقات مثل الانباعات تحتاج إلى وقت لتفكيكها وفهمها في سياقها الموضوعي وأنت في هذا العمر بل وفي هذه اللحظة المبكرة من رحلتك الدراسية تملكين منه الكثير, فما رأيك أن نناقش الموضوع بعد ستة أشهر من وجودك هنا, وهكذا كان . واذكر أنها فعلا بعد عدة شهور منذ ذلك اللقاء جمعتنا مرة أخرى وإعادة أمام دهشتي فتح الموضوع الذي كدت أن أنسى.

وما كان ذلك اللقاء الذي بدء في إطار شبه رسمي باعتبار «السيدة دايمن» مسؤولة الطلبة الأجانب بكلية لويس اند كلارك وانتهى بعلاقة عميقة معها ومع أسرتها حتى بعد تخرجي بسنوات إلا بداية مشجعة . ففي أقل من فصل دراسي واحد كانت قد بدأت تتكون لدي صداقات أسرية وشخصية مع عدد من الأمريكيين، معظمها بكل اعتزاز مستمر إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السيرة. فقد كانت ثاني زيارة لي لأسرة أمريكية بدعوة من برفسور كانوون الذي اصطحبني إلى بيته للعشاء مع زوجته وأبنائه وكانوا أيضا قريبين من عمري، بعد نزهة نهارية قضيتها معهم على ضفاف نهر كولمبو. رأيت رؤيا العين في تلك النزهة وكانت أول مرة أقف فيها على تلك الضفاف عددا من الأمريكيين الأصليين الهنود الحمر يجوبون النهر لاصطياد سمك السالمون رجالا ونساء على ظهر قوارب شراعية بقاماتهم الفارعة وبشرتهم البرونزية وقوتهم البادية وكبرياؤهم المتجلي وشعورهم الحصانية المتدلية بسوادها الأخاذ من أعلى الرأس إلى ما يقارب الخاصرة, وأحيانا كان أصحاب الجدائل الفاحمة يغطونها في الماء لتلعب مع أفراس النهر أمام الملأ. كان البيت التالي الذي دخلته بعد بيت أستاذي بتقشفه الأكاديمي وأثاثه المطمور بأكوام الكتب وبعد تجربة الصداقة الآسرة مع أسرته الصغيرة هو بيت أسرة صديقة عمري «سو ثامسون». كان بيت سو الأشبه بقصر غير بعيد عن الحرم الجامعي للويس أند لكلارك، حيث يقع بمنطقة «لييك اسويقو» . وقد انتهى ذلك البيت الواسع الأنيق الذي لا يأكل أهله إلا في أطباق من الخزف الصيني الأصلي والملاعق والشوك الفضة المطوية بالمناديل الحرير ولا يشربون إلا في كؤوس كرستال أن أصبح بيتي أنا أيضا وليس بيتها وأهلها وحدهم . فكنا نرتاده كلما «طقت كبودنا» من أكل كافتريا الكلية أو كلما ذهبت الأسرة في سفرياتها الكثيرة إلى أوربا وهاواي, فيتحول البيت الفخم بأثاثه الثمين إلى ما يشبه ثكنة طلابية تكيد لكل القيم الارستقراطية لأسرة سو بما فيها امتعاض والدتها العنصري من صداقاتها مع غير ذوي البشرة البيضاء. ومع ذلك لطالما جاءت والدة سو تقود سيارتها «الروزرايس» لتصحبني إلى موعد طبي أنا أو أي من أصدقاء سو المغتربين ولم يكن أي منا يتوانى رغم ذلك من الدخول في نقاش حاد ضد العنصرية مع تلك السيدة الخمسينية بوجهها البيضاوي وبشرتها الصافية بصفار وكأنها تعاني من انيميا وبأناقتها الباريسية وكأنها الممثلة الفرنسية آنجيراردو.

بعدها دخلت بيت أسرة زميلتي وصديقة سو سارة تنكر بسان فرانسسكو بكالفورنيا بعد رحلة برية قمنا بها بـ»الباي» أي بـ»القطة « في أول عطلة إيستر (عيد الفصح ) لي بأمريكا . قدنا الرحلة بسيارة سو التويوتا, أربعة بنات أمريكتان وميكسيكية وسعودية على «الهاي ويه 101» . تمرنت خلال تلك الرحلة على الفشل الذريع في صيد السمك من المحيط، وعلى تجارب ناجحة في كتابة أسمائنا على رمل الشاطئ دون أن تمحوها تلك الموجات العملاقة المجنونة ودون أن تقشعها الريح, كما تمرنت على السواقة وقمت فيها بكل أنواع الترويع لزميلات الرحلة بالأخطاء المخيفة التي من المعتاد أن يرتكبها من لم يمسك طارة من قبل ويحاول بها أن يطير. خلال الرحلة أنجزت على ما أذكر قراءات ممتعة لازلت حلاوتها عالقة بالشريط ومنها رواية سلفيا بلاث «بيل جار» أو ما بعض ترجمته «الناقوس» وكذلك مذكرات الأمريكية الثائرة اليسارية السوداء إنجلا ديفييس.

تتبع حلقة أخيرة للقطات خاطفة من تفاصيل المعايشة اليومية لتجربتي الدراسية بأمريكا. أخوي عبد الرحمن يدخل المدرسة، عابدي رأيه, مدرسة بكمان ومستشفى الشراين، عائلتي الأمريكية شيرلي وجون نيومن وأسرتهما لعدة أجيال، ليندا مووريل صديقتي الأمريكية بالرياض.

Fowziyaat@hotmail.com

Twitter: F@abukhalid

مقالات أخرى للكاتب