Friday 07/03/2014 Issue 15135 الجمعة 06 جمادى الأول 1435 العدد

قصة قصيرة

الصيحة

فجأة.. ودون سابق إنذار.. أو إرهاص.. أو حتى إحساس عابر.. فجأة هبّت عاصفة قوية ورياح عاتية، ومعها بدأت تتساقط أحلامنا من شجرة الأمل واحدًا بعد الآخر، طاحت النخلة التي كانت تظللنا بظلها، النخلة التي كانت تطعمنا من طيب تمرها، النخلة التي طالما أشعلت في نفوسنا الطموح المباح والسعي الدءوب، النخلة التي تعلمنا منها حب الخير، والترفع عن كل قبيح..

طاح الصمود وطاح سور الثقة يننا وبين الحياة والأمل، سقط السور الذي كان مرتقانا إلى كل خير، وحاجزنا عن كل شر، وانكسر السيف..غاب بريقه..ضاع السلاح.. سلاحنا ضد الكسل والخمول والتردد والخوف.. انكسر السيف وتكسرت نفوسنا، وانطفأت الشمعة..مات نورها.. وأظلم الدرب، واختلطت الرؤى، وتساقطت القناعات، ونبت الخوف مكان الأمان، والحذر مكان الانطلاق، تكسرت المجاديف، وغرقت السفينة.. وغرقت معها سعادتنا، تكسرت المجاديف، ومعها تكسرت الكثير من قناعاتنا واهتماماتنا وتفاصيلنا الداخلية..لقد كانت الرياح عاتية.. والموج رهيباً.

وانطلق الخبر يخترق الآفاق، يسابق الريح، والوصف يتخذ أشكالاً عديدة، والروايات تختلف من راوٍ لآخر، وحدنا نعرف أن الخبر واحد، والوصف واحد، والرواية واحدة.. إنه رحيل والدي العزيز.

تسربت الأحلام من بين أيدينا، فأصابنا بعده الجوع الذي لا يشبع.. والعطش الذي لا يرتوي، والجرح الذي لايبرأ، والحزن الذي لا ينتهي، أيامنا بعده اتخذت شاكلة جديدة، نسينا شكل أيامنا معه، وأيامه معنا، أصبحنا غير قادرين على ممارسة حياتنا بنفس الطريقة.

رحيله علمنا أساليب جديدة للحياة، الحياة بحذر، الحياة مع توقع الحزن، الحزن أقرب من الفرح وأعمق أثرا وأشد وقعاً، وهو معنا كانت مساحة الفرح أكبر من مساحة العمر، واليوم أصبحت أعمارنا جميعاً أقل من مساحة الحزن.. بكينا وبكينا وبكينا.. تحولت عيوننا إلى سحب ركامية دائمة المطر..كانت دموعنا..أكثر من المعقول...لكنها كانت.. أقل من المفروض! ثم قمت امتطي صهوة الطرقات، سرت بلا دليل، وفكرت بلا وعي، أستحضر كل الأسماء..فلا أجد سوى اسمه، أستحضر كل الوجوه.. فلا أرى إلا وجهه، أتخيل كل القامات.. فتنتصب أمامي قامته.

أسترجع كل الأصوات.. فلا أسمع سوى صوته، واستعصى عليّ الحزن، وتسربت من ذاكرتي الخبرات والتجارب، بحثت بشدة عن أمثل الطرق للتعامل مع الحدث، وعن أفضل الأساليب للتعايش معه كواقع لا مفر منه، عشت أياما وليالي أراه في نومي وصحوي.

عشت بقناعة واحدة.. أنه لم يمت!! لم ينته، فقط: غاب وسيحضر.. ذهب وسيأتي.. سافر وسيعود، سيعود يوم تخرجي.. وربما يوم زواجي..كنت أعيش هاجس عودته في كل لحظة... خانتني الوجوه..خانتني الذاكرة..فلا يوجد شبيه له، إنه نسخة واحدة، صورة فريدة، حالة متفردة، حالة لا تتكرر.. لا تتكرر.. لا تتكرر أبداً.

أحمد بن حسين الأعجم - جازان