Saturday 08/03/2014 Issue 15136 السبت 07 جمادى الأول 1435 العدد

تأمل في هذا الكون العظيم

عبدالعزيز صالح الصالح

عندما يتأمل المرء طويلاً بما في هذا الكون العظيم من آيات ومخلوقات عظيمة وكبيرة، فإن هذه الآيات والمخلوقات تبعث في النَّفس البشريَّة السّعادة والسّرور والفرح والأمل والتفكر، وتجعلها تطيل النّظر فيما تحتويه من روائع الصُّور المعبرة والهادفة كأنها تستمد من محتوياتها سعادة للقلب وحيوية للنفس وراحة للذهن وللبدن.. لا توازيها راحة ولا حيوية ولا سعادة، إنها لوحة تشتمل على ملامح واضحة من الجدِّ في التّفكر والتأمل في خلق الله سبحانه وتعالى وكل هذه الصُّور وغيرها تملأ نفس المرء صفاءً وتشعره بقيمة الالتجاء إلى مدبر هذا الكون العظيم وبضرورة الإحساس الصادق بمواطن العبادة ومواقفها.. ومعنى ذلك أن كلَّ الصُّور التي تناقض هذه الصور المذكورة آنفاً تصبح دليلاً على غفلةٍ وتفريطٍ وضياعٍ.

فكتاب الله الكريم بما فيه من علوم عظيمة وبما فيه من دعوة إلى التّأمل والتّفكر السّليم وبما فيه من روح (متألقة) لا توجد في سواه وبما فيه من بناء للشخصيَّة الإسلاميَّة القويَّة، وبما فيه من تقويم للألسنة، ومن ثروة لغوية لا تعدلها ثروة في هذا القرآن الكريم العظيم.

حيث إن صفاء النَّفس البشريَّة ونقاؤها يكون مرهونا بالأمل الذي يضيء جنباتها ولا يكون الأمل عظيماً ورائعاً إلا عندما يكون الإيمان قوياً راسخاً، شأنه في ذلك شأن الأزهار التي لا تكون جميلة إلا عندما تحظي بالعناية والاهتمام من قبل المرء المختص والمتابع حتى يطرد عنها شبح الجفاف.. وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أن قوماً تفكروا في الله - عز وجل - فقال النّبي صلَّى الله علية وسلَّم: (تفكروا في خلق الله، ولا تتفكرُوا في الله فإنكم لن تقدُرُوا قدرهُ).

والإيمان يُسعد قلب المرء بالأمل والتفكر حتى في أحلك الظروف والمواقف وأشدّها سواداً. وذلك لأن النفس البشريَّة إذا كانت مضيئة من الداخل بالإيمان استطاعت بقدرة الله أن تنشر ذلك الضياء في ذلك الوجود كله - فعلى سبيل المثال لا الحصر عندما احتُجز أصحاب نبي الأمَّة المحَّمديَّة - صلوات الله وسلامه عليه - في (شعب) أبي طالب لا يستطيعون الخروج منه، كان الإيمان بالله يشعل لهم قناديل الأمل وكانت تلك الحشرة الصغيرة تأكل بيان قريش الظالم، فإذا بالظلام الدامس يتحّول إلى نهارٍ مشمس جميل.. لو لم تكن نفوس هؤلاء القوم مشرفة من الداخل بنور الإيمان لما كان ثباتهم كما كان ولما حصل لهم فرج الله الذي حصل. وكذلك نبي الأمة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - وصاحبه أبي بكر الصديق عندما كانا في غار ثور مختبئين عن مشركي قريش وخيولهم تحيط المكان وتشرق فيه وتغرب طمعاً في العثور على هذين الرجلين الكريمين.. إلا أن الكلمة التي أشرق بها وجه الكون (ما بالك باثنين الله ثالثهما)، لولا الإيمان في قلب نبي الأمة لما أضاء بهذه الكلمة قنديل الأمل في نفس صاحبه أبي بكر الصديق، حيث إن الأمل طائر مغرِّد كما أنه قنديل مضيء، كما أن طائر الأمل حرُّ في تغريده لا يلتفت يميناً ولا شمالاً إلى مالٍ أو جاه ولا إلى قوَّة مادية مهما عظمت.. فهو طائر يغرِّد بدافعٍ حقيقي من قوة معنوية يفجرها الإيمان بالنفس البشريَّة الذي يصغر أمام عظمته كل عظيم.. وعن أبي يعلى شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الكيس من دان نفسه, وعمل لما بعد الموت, والعاجز: من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله) رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسن. وقال الحق تبارك: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سورة الأعراف، وقال الحق تبارك وتعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) سورة النحل.

فهذه الأرض المباركة عندما ترتوي من مياه الأمطار غيثاً هنيئاً تخرج لنا من شتى أنواع الأشجار والشجيرات والأزهار ومن بدائع الألوان التي تغطي الجبال والوديان والسهول والهضاب والغابات ما يسحر العين، وهذا المحار داخل البحار ينشق نصفين منسجمين متساويين يضم بداخله النقوش والألوان والتعاريج يعجز عن تقليدهما أمهر فنان تشكيلي يلامس هذه الألوان، وهذه التعاريج وهذه النقوش بفرشته الفنية وهذا الإنسان العجيب نشأ من ماء مهين!! وهذه الطيور المتنوِّعة والمتعدِّدة تحشد قواه في كل عام خاصَّة في فصلي الربيع والخريف على الرحيل على شكل جماعات كبيرة تقطع مسافات طويلة وجبال عالية وبحار ومحيطات واسعة لتصل إلى بلدان ملائمة، من الذي دلها وسيرها على الطريق ذهاباً وإياباً بدون علامات ولا دلائل يسيرون عليها؟ إنها الغريزة العجيبة التي تجعل حمام الزاجل يعود إلى مسكنه ومأواه، وكذلك القطط تعود إلى مساكنها إنها الغريزة التي تحمل كل حي من نبات وحيوان وإنسان على أن يأتي بمختلف الوسائل ليحفظ نفسه ويحفظ نوعه.

ولكن ما نشاهده ونلاحظه من معان عديدة وعجائب مختلفة لا تنتهي، نشاهد الطبيعة بإرادة رب الأرباب تصيب كل المخلوقات فتجد القوي يأكل الضعيف والضعيف يأكل الأضعف وهكذا فمثلاً الأفعى تصيد العصفور فتأكله، والعصفور يصيد الجراد فيأكله وكذلك الثعلب يصيد القنفذ فيأكله والقنفذ يصيد الأفعى فيأكلها وهذه سنة الحياة القوي يأكل الضعيف والضعيف يأكل الأضعف وهكذا.

فهناك أمم آمنة مطمئنة في أوطانها ومساكنها تلهو وتلعب وتعمل وتسعد وفي لحظة من اللحظات، وفي ساعة من السّاعات بإرادة خالق السموات والأرض تثور عليهم أمواج الطبيعة ببركانها وتجعلها في لحظة من اللحظات حمماً متناثرة ومتوهجة، وهذه مدينة متطورة تزخر بجمالها وبعدد سكانها ومبانيها وطرقها وميادينها وحركة سكانها الدائبة وفي وقت من الأوقات بإرادة رب العباد تثور بداخل أرضها زلزال فتصبح حصيفاً قاعاً صفصفاً كأن لم تغن بالأمس وهكذا، وهذه الأمراض المتعدِّدة تنتاب البشر بقدرة الله فلا ترحم طفلاً صغيراً ولا شاباً ولا شيخاً ولا هرماً فإن الآلام لا يمكن أن تفهم إلا على أنها جزء لا يستغني عنه نظام هذا العالم لو انعدمت الآلام، لأنها نظام هذا العالم من أساسه إن أنواع الفضيلة لا يمكن أن توجد في هذا العالم الواسع إلا إذا وجدت الرذيلة، فلا نفهم الإيثار حتى نفهم الأثرة ولا العدل حتى يوجد الظلم ولا الشجاعة حتى يكون الجبن ولا يوجد الحب من غير عذاب ولا التوبة من غير إثم، لو انعدمت كل الآلام والرذائل والآثام ما كانت للفضائل العالية دور في حياة المرء فإن عصر الأمم السابقة والحالية مبني على الخير والشر كافة، ولا يوجد عالم على وجه هذه المعمورة المباركة إلا بهذه الأمور سالفة الذكر.