Tuesday 25/03/2014 Issue 15153 الثلاثاء 24 جمادى الأول 1435 العدد
25-03-2014

تَقْمِيْشاتٌ مِنَ السِّيْرةِ الذَّاتِيَّةِ -8-

ولدت وفي فمي ملعقة من مداد، على الرغم من أن بيتي لم يكن بيت علم، وظل الكتاب مناط آمالي، أجد نفسي حيث أجده، لهذا كنت أحرص كل الحرص على زيارة المكتبات وحضور [معارض الكتاب] الدولية، والمحلية، والعربية، مدعواً كنت، أو على حسابي، مشاركاً كنت، أو ضيفاً.

وقد أكتفي باستعراض كعوب الكتب، وقراءة العناوين، وقد تمتد قراءتي للمقدمات، والخواتيم، والفهارس. ثم يكون الشراء، أو العدول. وقراءتي مرتهنة للعلوم الإنسانية، أو للكتاب المشهورين.

والخلطة والخبرة زَوَتا لي أبعاد المعارف. وكنت من بعد اليسار أشتري ما هب ودب، ولا أفكر في جودة الأداء، ولا في سلامة الأفكار. وحين أُتخمت مكتبتي بالغث والسمين، وضاقت رفوفها، بدأت بالانتقاء، ثم صرفني عن النَّهَمِ مغالاة الباعة في الأسْعار، لغياب الرقيب، وتهافت الناشرين على التافه من الكتب، وارتفاع رصيد الغثائية، وبخاصة في السرديات الروائية، بحيث هبطت لغتها، وفنياتها، وقضاياها، وهَمَّ بها من لا يحسن التعبير، فضلا عن التوفر على أدبية النص والموهبة، والثقافة، والتجربة. وعزز ذلك ندرة النقد الجاد، المتوسل بالمعيارية والأخلاقية.

ولأن المملكة من دول النفط الثرية، والقوة الشرائية فيها لا تنازع، فقد وجد الوراقون فرصة الاشتراك في معارضها الدولية، وجلبوا لها ما لا يحتمل من الكتب الرديئة في أساليبها، وأفكارها، وأخلاقها.

والشباب بوَصْفِه غض الإهاب المعرفي، يتهافت على هذا النوع من الغثاء، مخدوعاً بالإخراج البارع، والعناوين المثيرة. ومَرَدُّ المشاكل افتقار بعض القائمين على المعارض إلى الخبرة بالكتاب وما له من صناعة وإدارة، لا يعرفها إلا العالمون، ومَرَدُّها -أيضاً- إلى عشق الناشئة لحرية القراءة والتعبير، وتعلقهم بالمُخْتلَف حول مشروعية تسويقه من بعض الكتب، أو الكتبة.

ولما تزل مشاكل المعارض تنفجر بين الحين والآخر. فالزوار يختلفون في مشاربهم الثقافية، والمتدينون الورعون منهم يضيقون ذرعاً بتعدد الأصوات. فهم قبل التسوق متشبعون بانطباعات سيئة عن بعض المبدعين، وبعض المفكرين.

ولربما حُددت لبعضهم كتب، أو سُمِّي لهم مؤلفون، بل حددت لهم صفحات تحمل بين طياتها ألواناً من المخالفات غير المحتملة. فإذا وقفوا عليها، بدؤوا بمناكفة المسوِّقين، الذين لا يدرون ما الكتاب، ولا الانحراف، لأنهم مجرد موظفين، جيء بهم للبيع. وقد ترتفع الأصوات، ويتجمع المارة، وتسوء الأوضاع، حتى لا يجد رجال الأمن بُدًّا من التدخل، لفض الاشتباك، وتحويل القضية إلى مساراتها الرسمية. وعندها تشتعل المواقع الفضولية، ويتتابع النقد التشهيري، ويُسْرف المأزومون في النيل من أجهزة الدولة، ويتدخل الإعلام الفضائحي، لينفخ في تلك الوقوعات العارضة، ويُساء للأبرياء، ويشنَّع على المعرض، وعلى القائمين عليه، وقد يُسهم مُدَّعو التنوير في التأزيم، وتصعيد التنازع.

ولو أن الأطراف كلَّها عرفت حدود الواجبات والحقوق، لأخذت القضايا من خلال قواسمها المشتركة، ولم تجنح إلى الحِدَّة والحدية الموغرة للصدور، فكل عمل لا يخلو من أخطاء، و:- [كَفَى المَرْءَ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُه]، وآفة المشاهد واحدية الصوت والرؤية، وخطاب {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى}.

ومعرض دولي يستقطب آلاف العناوين، ومئات الناشرين، لابد أن تحصل فيه الهفوات، وتلاطم التيارات التي لا يجوز التشهير بها، ولا استغلالها للإثارة والمناكفات.

لم تُتَحْ لي المشاركة فيما لحق من تلك المعارض، على الرغم من أنها تقع في صميم اهتمامي، وفي مجال هِوَايتي، وفي أتون خبرتي. ولكنني أدعى إليها، وسبق أن كُرِّمْتُ فيما سبق منها، وهذا فوق ما أستحق. ما أوده لكل تظاهرة ثقافية ألا يستقلَّ بها طيف دون غيره.

هذه الفلتات غير السوية من كل الأطراف، لو هيئ لها من يديرها بحكمة، ولو عُرِفَتْ دخائل النفوس، لأدت هذه المرافق دورها المأمول. فالمندفعون لا يُواجَهون بردة فعل مماثلة. ومن ثم لابد من امتصاص الاحتقان، واحتواء المخالف، وإبداء الاستعداد، لتلافي ما حصل، والتعهد بمتابعة الهنات، وتذكير المخالف لطبيعة البلاد ونسقها الثقافي والفكري.

ولما كانت المملكة بَلَدَ جذب، وأسواقُها تغري بالتهافت عليها، كان لزاما على المتنفذين أخذ الاحتياطات اللازمة. وذلك بوضع الضوابط الصارمة، التي تحول دون تسريب أي كتاب يثير المشاعر، أو يسيء لشريحة مجتمعية، لها حق المراعاة، لا حق الاستبداد. إننا نستاء من هذه التصدعات غير المبررة، وغير السوية ونود الخلوص من الاحتقانات التي تعد من المعوقات.

من المسلمات أن ثقافة البلاد محافظة، وذات أبعاد دينية مُعَيَّنة، قد لا يعرفها البعض، ومن ثم يندفع المُسَوِّقون وراء أطماعهم، دون علم بهذه الطبيعة.

من جهتي لا أجد الحساسية المفرطة، التي تعصف بالكثير من الطيبين. أود الحصول على أي كتاب يخالف سلفيتي، على سنن [حذيفة بن اليمان] رضي الله عنه، حين قال:- [كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن أقع فيه].

وأنا حين أواطئ من جندوا أنفسهم للدفاع عن حوزة الدين، وأظاهر من أصروا على تصفية نصاعة نصه من تحريف الضالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، لا بد أن أعرف ما عليه الآخر. فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما يقول الأصوليون. ومكتبتي زاخرة بكتب الفلاسفة الماديِّين، وأصحاب المذاهب المنحرفة، أقرؤها، ولا أقرأ عنها. لأن القراءات المجحفة عن التيارات، والمذاهب، والأناسي تعمق الفرقة، وتصعد الخلاف.

وأنا بهذا الانفتاح، لا أدعو إلى الانفلات، ولا أحلم بإسلام بلا مذاهب. وفي الوقت نفسه، لا أحبذ احتكار الحقيقة، ولا استفحال الأثرة، ولا تعمد الإقصاء للمخالف.

ولست أشك أن من واجب العلماء النادبين أنفسهم للدفاع عن حوزة الدين، أن يكونوا على علم تام بما يدور من حولهم، لكيلا يؤخذوا على غرة. فالتقوقع المذهبي، وأمية التخصص، لا تتيح للمتصدي للمذاهب المخالفة فرصة الحوار الحضاري، والحجاج المعرفي.

وكيف لا نُهَيِّئُ أنفسنا لمثل هذه المنازلات؟. والله جل وعلا يوجهنا إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وإبلاغ المشرك مأمنه بعد سماعه للحق.

لقد حضرت معارض الكتاب في [القاهرة، ودمشق، وبغداد، والمغرب العربي، وسائر البلاد العربية] وبخاصة دول الخليج، ولم أر ما أراه في معارضنا من تصدعات، ومبالغات، ومظهريات.

معارضنا تهتم بالجانب الإعلامي. وقد تنفق الكثير في سبيل ذلك، وقد يُحَمَّل المتَسوِّقُ شطراً من هذا البذخ الذي لا يخدم الكتاب، ولا يعود بالنفع على القارئ. ثم إن لدى البعض منا حساسية مفرطة، تواجه المشاكل العارضة أو المتوقعة بنزق، وارتياب. ولا نتردد في قراءة مثل هذه الظواهر بعيون تقدم الشك على اليقين، وسوء الظن على حَسَنِه.

مع أن مثل هذه الجنح لا تحتمل مزيداً من التصعيد، فكل عمل بهذا الحجم، ينطوي على أخطاء، لو عولجت بحسن النوايا، وسلامة المقاصد، لمَرَّت دون شطط، أو تصدع.

لا أستطيع هنا التماس مناطات الأخطاء، فكلنا خطاؤون، وكلنا شركاء فيما يبدر من سوء التصرف، وعوج المواجهة للوقوعات. ونظراً لوجود خلفيات من الاستياء، فقد أصبح الحدث مجالاً لتصفية الحسابات.

والمعارض ضرورة حضارية، يجب أن يَحْتَفِي بها الجميع، وأن تُوَطَّأ لها الأكناف، ولا سيما أننا أمة القراءة، ومعجزة نبينا كتابٌ محفوظ، تُشَكِّل معارفه شطر الثقافة، والحضارة، والفكر الإنساني.

وما أوده في شأننا كله تقديم الظَّن الحسن، والتفسح للمخالف، وعدم تسابق الأطياف على التصعيد، والكف عن التشهير، والاستعداء، والميل إلى حفظ التوازن، والشعور بأن الكل مستهمون على ظهر السفينة.

الشيء المستغرب أن وحدتنا الفكرية مستهدفة، تماماً كاستهداف وحدتنا الإقليمية، وأن الذين ينعمون بفيوض مِنَحِنا، يتسابقون لتصعيد محننا. وتجربة تحرير الكويت خير شاهد. حتى لقد لجأنا إلى الاستعانة بالأجنبي. وواجب النخب أمام هذه الغرائبيات أن يَرْبعوا على أنفسهم، وألا يفرقوا بين ثرواتنا المادية، والروحية. فنحن على جانب كبير من هاتين الثروتين: [كعبتنا المشرفة بلباسها الأسود]، و[نفطنا المعشوق بلونه الأسود].

وما لم يحفظ المتنفذون التوازن في رعاية المثمنات: المادية والروحية، وتنميتها، فإننا سنفقد بفقد الثروتين ما نحن فيه من هيبة عالمية، ومكانة متميزة.

ما نشاهده من توترات في معارض الكتاب، نجد مثله في مرافق أخرى. ومن الخير للبلاد والعباد أن تدير النخب دفة الأزمات بنفسيات مطمئنة لوَّامة، تقدم الثقة، والرفق، وتحسن الظن بمن تلقوا راية المسؤولية.

وعلى الجميع أن يتقبلوا النقد، والمساءلة، واختلاف الآراء بصدور رحبة.

فالصراع في النهاية إكسير الحياة، والاختلاف من طبيعة البشر:- {وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}.

والناعمون بالأمن، والاستقرار، والرخاء لن يُتْركوا وشأنهم، فالمؤتمرون بالإثم والعدوان، لا يترددون في جر الأراذل، لتخريب مثمنات بلادهم بأيديهم.

عندما أنظر إلى ضخامة المعارض، وتعدد المعارف، وتنوع المشارب والسيولة النقدية، ثم أنتقل بذاكرتي إلى طفولتي، وشبابي المبكر قبل خمسة عقود ونَيِّف، أجد الفرق الشاسع، بينما كنا عليه إذ ذاك، وما كان عليه جيل النفط الذي يفرط بهذه الإمكانيات، ولسان حاله يردد:- {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ظناً منه أن هذه المكتسبات، من حقوقه المشروعة، التي لا تحول، ولا تزول.

لقد كنا في مطلع شبابنا نتبادل الكتاب الواحد، حين نظفر به بعد عناء وانتظار، وإذا كان صغير الحجم، لا نتردد في نسخه على نور السُّرج. وندرة الكتاب ليست في العجز عن شرائه، ولكنها في هذا، وفي ندرته. لا أستطيع أن أتصور الإمكانيات، وأنا أستعرض دور النشر في المعرض، وعبر الأجهزة الدقيقة.

بقي أن نعي هذه الإمكانيات المتعددة، وأن نقدرها قدرها، فالنعم إذا شكرت قرَّت، وإذا كفرت فَرت {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إنه وعد الله ووعيده {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب