Friday 04/04/2014 Issue 15163 الجمعة 04 جمادى الآخرة 1435 العدد
04-04-2014

رجالٌ صدقوا .. سفيان الثّوري

عالم من أفاضل العلماء في العهد الأموي، ولد بالكوفة في خلافة سليمان بن عبدالله، وأخذ عن مشاهير العلماء في عهده، إنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثّوري، زكّاه العلماء في الحفظ، والتوثيق قال يحيى بن اليمان: أقبلت عليه الدنيا فانصرف عنها.

وقد جاء سفيان إلى صيرفيّ بمكة، يشتري منه درهم بدينار، فأعطاه الدينار، وكان معه آخر، فسقط من سفيان، فطلبه فإذا بجانبه دينار آخر، فقال له الصيرفي: خذ دينارك، قال: ما أعرفه، قال خذ الناقص، قال: فلعله الزائد.. وتركه ومضى.

وكان سفيان زاهداً، وحاولوا معه القضاء فأبى، كما كان صريحاً وجريئاً في دعوته ونصحه فقد قال: عبدالله بن صالح العجليّ: دخل سفيان على المهديّ فقال: سلام عليكم كيف أنتم أبا عبدالله؟ ثم جلس فقال: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأنفق في حجته ستة عشر ديناراً، وأنت حججت فأنفقت في حجتك بيوت الأموال، قال: فأي شيء تريد؟ تريد أن أكون مثلك؟ قال: فوق ما أنا له، ودون ما أنت فيه، فقال وزيره أبو عبيدالله: أبا عبدالله قد كانت كتبك تأتينا فننفذها، قال: من هذا؟ قال المهديّ: أبو عبيد الله وزيري؟ قال: إحذه فإنه كذّاب، إني ما كتبت إليك، ثم قام فقال له المهديّ إلى أين يا أبا عبدالله. قال: أعود.

وكان قد ترك نعله حين قام، فعاد فأخذها ثم مضى، فانتظره المهديّ فلم يعد، فعلم أنه عاد لأخذ نعله، فغضب وقال: قد أمن الناس إلا سفيان الثوريّ، وإنه لفي المسجد الحرام فذهب فألقى نفسه بين النساء، فخبأنه.

فقيل له: لِمَ فعلت هذا؟ فقال: إنهن أرحم.. ثم خرج إلى البصرة، فلم يزل بها حتى مات.

ومع هذا فقد استدعاه المهدي يوماً ليستفتيه في مشكلة حصلت بينه وبين زوجته الخيزران ذلك أن المهدي قال للخيزران: أريد أن أتزوج وكانت بكتاب فقالت له: لا يحلّ لك أن تتزوج، قال: بلى. قالت له: بيني وبينك من شئت من العلماء، قال: أترضين سفيان الثوريّ؟ قالت: نعم. فوجّه إلى سفيان، فلمّا جاء قال له: إن أمّ الرشيد تزعم أنه ليس لي أن أتزوج عليها وقد قال الله عزَّ وجلَّ {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} ثم سكت. فقال له سفيان أتمّ الآية. يريد قوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} (3 سورة النساء) وأنت لا تعدل: فأمر له بعشرة آلاف درهم فأبى أن يأخذها.

ومن قول سفيان سأله قائلاً: إني أريد الحج، فبماذا تنصحني؟ قال سفيان لا تصحب من يتكرّم عليك، فإن ساويته في النفقة أضرّ بك، وإن تفضّل عليك استذلك. وكان يقول: من كان في يده شيء من هذه الدراهم، فليصلحه، فإنه في زمان إن احتاج كان أول من يبذله دينه.

أما سفيان بن عيينه فقال عنه: ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري وعبدالله بن المبارك: يقول لا نعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان الثوريّ.

وكان يقال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في زمانه رأس الناس، وبعده كان عبدالله بن عبّاس وبعده الشعبيّ، وبعده سفيان الثوري.

ولمكانته العلمية فقد ذكر الذهبي أن شيوخه يبلغون ستمائة شيخ، أما تلاميذه الذين رووا عنه وحرصوا على تلقي العلم عنه، فقد ذكر ابن الجوزي: أنهم أكثر من عشرين ألفاً، لكن الذهبي اعترض على هذا قائلاً: فإن بلغوا ألفاً فبالمهد، وما علمت أحداً من الحفّاظ روى عنه عدداً أكثر من مالك، وقد بلغ أكثر من روى عنه بالمجاهيل، والكذّابين ألفاً وأربعمائة.

وقد اعتبره الذهبي رأساً في أمور كثيرة، فقال: قد كان سفيان الثوري رأساً في الزهد، والتأله والخوف، ورأساً في الحفظ ورأساً في معرفة الآثار، ورأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، ومن أئمة الدين، واغتفر له في غير مسألة اجتهد فيها.

ومن خوفه ومحاسبته لنفسه تمثّله هذه الحكاية، وهي موقف من مواقفه، فقد قال يوسف بن أسباط قال لي سفيان بعد العشاء، ناولني المطهرة لأتوضأ، فناولته إياها، فأخذها بيمينه، ووضع يده على خدّه، فبقي مفكراً، ونمتُ.

ثم قمت وقت الفجر، فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت هذا الفجر قد طلع، فقال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكّر في الآخرة حتى الساعة.

وقد كان سفيان الثوري كما مرّ قد هرب من المهدي خوفاً من تولي القضاء، وذلك لأن علماء الإسلام، المتورّعين لا يحبون تولي القضاء لما سمعوا به من الوعيد للقضاة، كما جاء في الحديث الصحيح: «القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة».. فلذا صار يتوارى ويختفي ويطوي بطنه على الجوع.

يقول أبو شهاب الحنّاط: بعثتْ معي أخت سفيان الثوري، بجراب إلى سفيان، فسألت عنه، فقيل له: ربما قعد عند الكعبة، مما يلي الحفَّاظين، وكان في الجراب: كعك وخشكنان - نوع من الأطعمة.

فأتيته فوجدته مستلقياً فسلّمت عليه، فلم يسألني تلك المسألة، ولم يسلّم وقد كنت أعرفه من قبل، فقلت إن أختك بعثت معي بجراب فاستوى جالساً وقال: عجّل بها. فكلمته في ذلك، فقال: يا أبا شهاب.. لا تلمني فلي ثلاثة أيام، لم أذق فيها ذوقاً فعذرته عن إخفاء حاله واختفائه وهروبه من الطلب.

وقد ذكر ابن سعد في طبقاته: قال: فلما خاف سفيان من الطلب بمكة خرج إلى البصرة ونزل قرب منزل يحيى بن سعيد، ثم حوّله إلى جواره، وفتح بينه وبينه باباً، فكان يأتيه بمحدّثي أهل البصرة يسلّمون عليه ويسمعون منه.

وقد أتى جرير بن حازم، ومبارك بن فضاله، وحمّاد بن سلمه ومرحوم العطّار، وحمّاد بن زيد، وأتاه عبدالرحمن بن مهدي فلزمه، وكان أبو عوانه يسلّم على سفيان بمكة، فلم يردّ عليه، فكلم في ذلك، فقال: لا أعرفه، ولما عرف أنه اشتهر مكانه ومقامه: قال اليحيا حوّلني فحوّله إلى منزل الهيثم بن منصور، فلم يزل فيه، فكلّمه حماد بن زيد في تنحيه عن السلطان وقال: هذا فعل أهل البدع، وما يُخاف منهم، فأجمع حمّاد وسفيان على أن يقدما بغداد، وكتب سفيان إلى المهديّ، وإلى يعقوب بن داوود، وزيره فبدأ بنفسه فقيل: إنّهم يغضبون من هذا، فبدأ بهم، وأتاه جواب كتابه: بما يحبّ من التقريب والكرامة، والسمع منه والطاعة.

فكان على الخروج إليه، فحمّ ومرض، وحضر الموت فجزع، فقال له مرحوم بن عبدالعزيز ما هذا الجزع؟ فإنك تقدم على الرب الذي كنت تعبده، فسكن وقال: انظروا من هنا من أصحابنا الكوفيين، فأرسلوا إلى عبادان.

فقدم عليه جماعة، وأوصى ثم مات. وعن حرصه على التعليم، حتى لا يكتم العلم قال يحيى القطّان: مات ابن أبي خالد وأنا بالكوفة، فجلس إلى جنبي سفيان ننتظر الجنازة، فقال: يا يحيى خذ مني حتى أحدثك عن إسماعيل، بعشرة أحاديث، لم تسمع منها بشيء.

فحدّثني بعشرة، وكنت بمكة وبها الأوزاعي. فقال: اجلس لا تبرح حتى أحدثك عنه، يا يحيى خرج الأوزاعي الليلة، قلت: نعم قال: اجلس حتى أحدثك عنه بعشرة أحاديث لم تسمع منها بشيء، فقلت: وأي شيء سمعت منه؟ فلم يدعني حتى حدثني بعشرة أحاديث عنه، لم أسمع منها بواحد. فرحم الله سفيان الثوري فقد قال عنه ابن مهدي، نزل عندنا سفيان، وقد كنّا ننام أكثر الليل، فلما نزل عندنا ما كنا ننام إلا أقله، ثم قال عبدالرحمن بن مهدي في مرضه: ما سمعت سفيان في مرضه، حتى فاضت روحه يقول آه.

mshuwaier@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب