Tuesday 20/05/2014 Issue 15209 الثلاثاء 21 رجب 1435 العدد
20-05-2014

الجامعات والبحث العلمي

عُقد في جامعة الملك سعود، ولا داعي هنا لأن نذّكر بأنها الجامعة الأعرق والأكبر، ملتقى كراسي البحث العلمي الثالث لجامعات المملكة، وقد بذل الزملاء في الدراسات العليا والبحث العلمي الكثير من الوقت والجهد للإعداد لهذه المناسبة، وكانت لهم أهداف وطنية وعلمية نبيلة تدفعهم لذلك.. وكانت هناك ملاحظات وانطباعات للكاتب

يود أن يشاطر القارئ العزيز بها.

من أول هذه الانطباعات تشريف صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن عبد الله لهذه التظاهرة العلمية، حيث بدا - حفظه الله - حريصاً على افتتاحها وتفقّد معرضها بصرف النظر عن الوقت والجهد، فتوقيت الافتتاح كان في وقت متأخر من ظهر ذلك اليوم، وقد حضر سموه وأسر للقائمين على الملتقى وعلى رأسهم معالي الدكتور بدران العمر، ووكيل الجامعة للدراسات والبحث العلمي الدكتور أحمد العامري بأن البحث العلمي هو العنصر الأهم في تقدم الأمم، وأن المسئولين في الدولة يولونه أهمية كبيرة.. ثم افتتح سموه المعرض المصاحب في جولة استمرت لأكثر من ساعتين وكان أقل ما يُقال عنها إنها متعبة، إلا أن الأمير تركي أصرّ على الاستمرار وعلى الوقوف على كل كرسي، وكان واضحاً أنه يريد الوقوف على القدرات البحثية لكل جامعة.. وانتهت الجولة بُعيد إعلان المؤذن دخول وقت صلاة العصر. الأمر الذي اعتقدت أنه يستحق الإشادة هو عودة سمو الأمير تركي للجامعة مرة أخرى في مساء اليوم ذاته في السابعة والنصف للمشاركة في رعاية حفل تخرُّج طلاب الجامعة بصحبة صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن بندر حينئذٍ، فنحن أمام جيل جديد من الأمراء الذين يجمعون بين أعلى درجات الحيوية والروح الوطنية.

المعرض كان ممتازاً وكان يمكن أن يمدد لأغراض تثقيفية للطلاب مع أن المعرض تمت إقامته لإطلاع رجال الأعمال على إمكانيات الاستثمار التي توفرها كراسي البحث وعلى وجه الخصوص الكراسي ذات الطابق التقني، إلا أنه وللأسف لُوحظ عدم تواجد رجال الأعمال بالشكل المتوقع ربما لعدم معرفتهم بأنهم هم الفئة المستهدفة بهذا النشاط.. وكان هذا الأمر محل استغراب القائمين على المعرض وعلى رأسهم الدكتور أحمد العامري.

ولا أحد بالطبع يقلل من مساهمات رجال الأعمال في بناء هذا الوطن وفي دعم مسيرته العلمية والبحثية وهم بالطبع من يدعم هذه الكراسي ومنهم فعلاً من هو قريب من الجامعة ويدعم أكثر من كرسي فيها.. ودعم العلم والبحث العلمي في رأي الكاتب من أهم أوجه الجهاد بالمال، فمعارك هذه العصر ليست عسكرية فقط، بل علمية، واقتصادية وتقنية بالدرجة الأولى وهذه الجوانب هي أهم ما تحتاجة أمة محمد اليوم.

ويجب ألا ننخدع باستعجال نتائج البحث العلمي، فأشجار البحث العلمي تحتاج وقتاً طويلاً لكي تثمر، وتحتاج لوقت ومثابرة وصبر من يعتد عليها يجن ثمارها، وعندما تبدأ هذه الأشجار بإتيان أُكلها تتحوّل لثمرات سحرية تضيء طريق المستقبل، وتقدم كل جديد ومبدع.. فالعلم ببساطة هو الفارق الأهم بين الأمم الفقيرة والأمم الغنية، بين الفئة القليلة القادرة والفئة الكبيرة الضائعة.. والصبر والعمل الجاد هما الفيصل في التحصيل العلمي.

ومن يخال أن دعم بحث أو كرسي ما لا بد وأن يتوقف في بضع سنين فقد جانَبه الصواب، فمن أهم سمات البحث العلمي الصبر والعناد والإصرار.. إصرار ليس من قبل الباحثين بل ومن الداعمين أيضاً.. وعملية دعم الكراسي البحثية تحتاج لوقت لا بأس به لتنضج، وستكون محفوفة بكثير من مخاطر الإحباط، وربما حتى الفشل، فمعركة البحث العلمي معركة كسر إرادات وصراع كوني طويل لتدمير الجهل والمجهول.

ولا استثناء لثقافة، أو جنس من قواعد البحث العلمي وأساليبه فجميع الأمم تمر بالتجارب ذاتها بلا أي استثناء. والفارق دائماً هو في الإرادة، الإرادة للنهوض لمصاف الأمم المتقدمة، والثقة في النفس وفي القدرات والإمكانيات. وعندما يقدم الداعمون في الخارج الدعم للبحث العلمي فهم ينطلقون في أعماقهم من قوة الإرادة هذه ومن ثقتهم في أوطانهم وباحثيهم.

بالطبع ستكون هناك أخطاء، وستكون هناك عثرات، وستكون هناك خيبات أمل، وسيكون هناك ملل كبير في استعجال النتائج، وهزيمة هذه الأمور مجتمعة هو الطريق الوحيد لهزيمة التخلف العلمي، فالأمر قد يتطلب سنوات طويلة بل أجيالاً، فالبحث العلمي يجب أن يصبح أسلوب حياة المجتمع لا ظواهر مبعثرة متقطعة يائسة.

جميع الأمم مرت بإحباطات في هذا المجال ومن نجح منها وارتقى هو من ملك الصبر والإرادة، فالصبر والتضحية هما ما نهضا باليابان.. ومصر دخلت الميدان العلمي قبل كوريا الجنوبية ووصلت كوريا لما وصلت إليه بالمثابرة والصبر والبذل في المجال العلمي، بينما استعجلت مصر النتائج ورأت في استيراد تقنيات التصنيع أمراً أسهل من الاستمرار في محاولة تطويرها، انتعشت مصر على المدى القصير ووصلت كوريا لما وصلت إليه على المدى البعيد.. وفي العقود الأخيرة أدركت الصين والهند إمكانية التقدم في المجال العلمي وبالمثابرة قلبتا المعادلة الاقتصادية العالمية.

العلم الحديث، والبحث العلمي الحديث أوصلانا إلى حقيقة أن البشر سواسية في قدراتهم العقلية والبحثية، وأن العلم ليس قدرات خاصة يختص بها عِرقٌ دون الآخر، تخطيط وتنظيم وسلوك، صبر وثقة في النفس.. فجميع الدول بما فيها بريطانيا، وأمريكا، وألمانيا، واليابان وغيرها دعمت الكثير من البحوث بالكثير والكثير من المال وخرجت بنتيجة واحدة أن الطرق البحثية السابقة خاطئة، لكنها ما أن استدلت على الطرق الصحيحة مرة واحدة انفتحت لها مغارة علي بابا بكنوزها.. فلا بد من وعي السايكولوجية الاجتماعية، والسايكولوجية الأكاديمية للبحث العلمي، نحتاج لأن نتشربها، وأن نتسلح بها وبالإرادة ونتوكل على الله، أما استعجال النتائج وفقدان الإرادة والصبر فسيبقيانا فيما نحن فيه.

الشركات الكبرى التي دعمت البحث واستثمرت وصبرت تجني أرباحاً فلكية، أرباحاً بالمليارات، وتقدم لوكلائها من رجال الأعمال في مختلف أصقاع لأرض الفتات الذين يخالونه كثيراً، وما يجب علينا التطلع إليه هو أن نكون مستقلين بعلمنا وتقنيتنا فهما أساس أي مفهوم أمني لنا وبدونها نبقى تابعين لغيرنا معتمدين عليه.. نملك إمكانيات كبيرة قد نفتقدها في المستقبل فيما لو لم نحوّلها إلى منتجات علمية واقتصادية مستدامة، فكل معين لا ينتج ولا يتجدد لا بد وأن ينضب.. وكلي أمل ألا تمر علينا مناسبة تتعلق بالبحث العلمي إلا وأن نتوقف عندها ملياً نقوّمها ونقيّمها، وندعهما بكل ما نستطيع.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب