Thursday 29/05/2014 Issue 15218 الخميس 30 رجب 1435 العدد
29-05-2014

امتحان القاضي والجني..

أسدلت هيئة الرقابة والتحقيق ستار العقلانية والمرجعية القانونية على آخر فصول مسرحية القاضي الذي ادعى تعرضه للسحر وأن جنياً يتلبسه، وأنه مريض ويرتقي عند بعض المشايخ، وأنه لا يسيطر على أفعاله وأقواله، وذلك كمحاولة للتملص من قضية التلاعب بحقوق المواطنين، وذلك عندما أدانت الهيئة القاضي الشهير بـ(قاضي الجني)، و36 من رفاقه، بينهم موظفون في محكمة المدينة، ومسؤولون ومحام شهير، بتهم الفساد المالي والإداري، والتلاعب بحقوق المواطنين، والاستيلاء على 600 مليون ريال.

تعتبر القضية أكبر امتحان للنظام القضائي وللوعي العام في البلاد، وذلك عندما وضِع العلم والقانون في مواجهة بعض التفسيرات الدينية مثل تلبس الجني للإنسان، وأن أفعال المرء قد تكون نتيجة فعل فاعل آخر خارج عن إرادته، والتي تعتبر أحد المسلمات في اجتهادات بعض علماء الدين، لكن الهيئة بعد انتظار اختارت الانحياز للثقافة القانونية التي لا تخلط الغيب بالواقع، والتي قد يفتح اعتبارها حقيقة مطلقة ثغرات لا حصر لها، فقد يدعي بعض أصحاب الجرائم أن أسباباً غيبية مثل التلبس بالجن أو السحر كانت خلف أفعالهم الإجرامية، وأن يفسر بعض مختلسي المال العام غناه الفاحش والمفاجئ بأنه رزق من الله عز وجل، أو أن القدر شاء أن يتجاوز الإشارة الحمراء، ويتسبب في مقتل أبرياء كانوا في المسار الصحيح، وأن ما حدث كان خارجاً عن إرادته، وبالتالي لا يستحق العقوبة.

وقد سبقت تطبيقات التعليم الطبي الحديث جهة القضاء في الأخذ بالعلم والمفاهيم الحديثة، عندما أصبحت لا تعترف بالتشخيص المرتبط بالجن والسحر والعين للأمراض، لذلك لا يُقبل في لغة الممارسة الطبية الحديثة أن يكتب أحدهم تشخيصاً لمريض أنه تلبس جني أو مصاب بعين، أو مسحور، وذلك لعدم توافقها مع شروط العلم التجريبي، والذي يقبل الحقائق العلمية القطعية والمبنية على الأدلة والبراهين العلمية، عند التعامل مع الأمراض وطرق علاجها، ويرفض الطرق والآراء المبنية على الظن والثقافة الشعبية، ولازال مروجو تلك الثقافة يقدمون خدماتهم عبر الإعلام الحديث ووسائل التواصل الإجتماعي، وقد أفهم أن من الصعوبة أن يعيش الإنسان بلا أمل، وخصوصاً عندما يقدمون هؤلاء وسائلهم غير العلمية ضمن وعظ ديني.

يكمن سر امتلاك الغرب لأسرار الطبيعة والاكتشافات العلمية في أنهم يؤمنون بالنظرية الوضعية، والتي تربط كل الظواهر الطبيعية بأسباب مادية، وأن قدر الإنسان في هذه الدنيا أن يبحث عن تلك الأسرار، ومن أجل إحكام السيطرة على شعوب العالم الآخر أوجدوا ملكية للأفكار وبراءات للاكتشاف العلمي، وهو ما ساعدهم في إحكام سيطرتهم على ثروات الشعوب في العالم، ولأسباب يصعب تفسيرها انتصر المنهج العقلاني في الغرب على التفكير الديني التقليدي، وذلك بعد أن قرر مارتن لوثر الخروج على الكنيسة التقليدية في روما، وكان ذلك الخروج بمثابة البوابة التي أحدثت سلسلة من الانقلابات، كانت نهايتها سيطرة العلم والتفكير العلمي التجريبي على مجالات الحياة.

في حين كان العرب على مقربة من تلك القفزة العقلانية في عصور خلت، لكنهم تراجعوا عن تلك الخطوات، وعادوا للوراء تحت شعار المحافظة على أصول الدين، وضد الإبداع الذي ارتبط بمفاهيم غير صحيحة، ليصبح الإنجاز ظاهرة سلبية، ومنها أن من قال إن هناك ما هو أصغر من الذرة مبتدع، ومنها القول بحرمة الكيمياء، برغم أن الدين الإسلامي شجع على التفكير العقلاني، وحث على طلب العلم، وأثنى على العلماء، لكن يبدو أن هناك أسبابا لها علاقة بالسياسة والجغرافيا والحروب الطائفية، كانت خلف تقهقر الحضارة العربية تحت مظلة التقليد والماضوية، وكانت قضية القاضي البريء والجني المتهم نتاجا لحقبة طويلة من التجهيل وتسطيح العقول، ومن يدري، فرب ضارة نافعة ..

فتحت قضية الجني والقاضي الآفاق من جديد للخروج من التلبس بالفكر الماضوي، وسننتظر اتخاذ الخطوات الأهم، وهي مرحلة التقنين للأحكام القضائية، وتفعيل النظام القضائي الإجرائي والموضوعي، وإدخال المؤهلين في القانون للعمل في القضاء، واستقلاله عن اتجاه معين، وذلك من أجل مصلحة الوطن، وتطبيقاً لمبدأ المساواة تحت مظلة القانون، وبإيجاز الوطن في حاجة ملحة لتلك الخطوات من أجل اللحاق بالركب في الحضارة المدنية الحديثة.

مقالات أخرى للكاتب