Thursday 29/05/2014 Issue 15218 الخميس 30 رجب 1435 العدد
29-05-2014

المدرسة فى دور العشّ الاجتماعي

الدور التعليمي للمدرسة لا يحتاج إلى بيان. أما الدور التربوي فهو مكمّلٌ أو موازٍ للدور التعليمي، ولكنه مكمّلٌ أيضا -أو هكذا يجب أن يكون- لدور الأسرة، ولاسيّما عندما تشغلها ظروف المعيشة. ولكن أن تقوم المدرسة بدور العشّ الاجتماعي - أي أن تعتني بالتنشئة الاجتماعية للطلاب،

فهذا ادعاء يحتاج إلى تبرير. نحن نقول دائما أن الأسرة هي نواة المجتمع؛ وذلك من جانبين: الأول أنها تنتج الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع، والثاني أن كل أسرة تمثل نموذجا مصغرا للمجتمع، لما يسود فيها من علاقات بين أفراد مختلفين في العمر والجنس والأدوار. هذه العلاقات شهدت في مجتمعنا خلال السنوات الأربعين الأخيرة تحوّلات تدريجية أطلقتها الطفرة الاقتصادية الكبرى التي بدأت في حوالي منتصف التسعينيات الهجرية. فجأة وجد المجتمع نفسه وقد (طاح في نعمه)، وليس في حاجة إلى كدٍّ وكدح، فكل شيء متاح للاستهلاك والبحث عن الثروة: مِنَح الأراضي والمساهمات العقارية، القروض الصناعية والزراعية والعقارية، تملّك المنازل الحديثة والسيارات، الاستثمار في الأسهم، الصناعات الاستهلاكية، الاستيراد المفتوح، زيادة الرواتب، استقدام العمالة الرخيصة للعمل في المصانع والإنشاءات وخدمة المنازل وخدمات الصيانة والنظافة والبيع. رافق ذلك أيضا استخدام وسائل الترفيه المنزلي - وخاصة التلفزيون والفيديو. كل ذلك اقتطع جزءاً كبيراً من الوقت الذي كان يجمع أفراد الأسرة، ومن الانتباه الذي كان يوليه كل فرد في الأسرة للآخر، فيهتمّ الكبير بالصغير، ويتعلم الصغير من الكبير. ولم تؤثر كثيرا حقبة انخفاض إيرادات النفط (1402- 1416هـ) على نمط الاستهلاك في الحياة الأسرية والاجتماعية بل استمر هذا النمط، ثم تعاظم في حقبة الطفرة الاقتصادية الراهنة. لقد كانت الدولة حريصة على ألا تُمسّ المصالح المباشرة للمواطنين، ومن بينها تلك المصالح التي تعدُّ من الكماليات وليست من ضرورات المعيشة، مثل العمالة المنزلية وأجهزة التسلية والتواصل الاجتماعي، ولكن اعتيادها والاتكال عليها صار ملازماً للنمط الاستهلاكي للأسرة، وعميق التأثير عليها. وعلى سبيل المثال فإن وجود سائق للعائلة أتاح لرب الأسرة مزيداً من الوقت للانشغال خارج البيت؛ أما وجود الخادمة فقد أراح ربة البيت (الأم) من بعض أعمال المنزل، فأتاح لها مزيداً من الوقت للاهتمام بالصديقات والتسوق والتلفزيون ورسائل الجوال والثرثرة عبر الهاتف والنوم فانشغلت هي أيضا على حساب بقية أفراد الأسرة - خاصة أولادها. هؤلاء الأولاد صاروا يقابلون السائق والخادمة لقضاء حوائجهم أكثر من والديهم. وكما انشغل الوالدان عن أولادهم، كذلك وجد الأولاد ما يشغلهم متمثلاً في الاستخدام الكثيف لوسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت والألعابالإلكترونية والتلفزيون والشغف بمتابعة كرة القدم، ونتج عن هذا التباعد بين جيل الآباء وجيل الأبناء اتساع الفجوة الثقافية بينهما. فقد بقي الآباء والأمهات على ما نشؤوا عليه وتعلموه من عرف وتقاليد وثقافة وفكر، على الرغم مما جلبوه لأنفسهم وأسرتهم من تقنيات حديثة، في حين أن الأولاد قد عقدوا أُلفة مع الأجهزة الإلكترونية، يتلقّون المعارف ويأخذون القدوة منها. مسافة الاختلاف بين الجيلين جعلت انتقال المفاهيم والخبرات أو تقبّلها من الطرفين صعبا، ولم تعد الأسرة -وهي المجتمع الصغير- عتبة الدخول إلى المجتمع الكبير، مجتمع البلدة أو الحيّ، كما كانت في الماضي. كذلك فقد تضاءل أيضا رباط الجيرة بين الصبية في الحي، فلم يعودوا يلتقون ويلعبون في الشارع، كما كان الحال في عهد آبائهم، حين كانت البيوت متلاصقة والشوارع (أو السكك) آمنة. معطيات هذا التطور أفرزت حالة من الاغتراب أو العزلة عن المجتمع الكبير، ولأن الإنسان كائن اجتماعي، فقد وجد الناشئون ضالّتهم في تكوين دوائرهم الخاصة، إما مع الزملاء في الفصل أو -بعد أن يكبروا- مع شباب أمثالهم، حيث يلتقون في استراحات بعيدة. تكوين هذا (المجتمع الموازي ) لم يخلُ من تأثير سلبي على بعض العلاقات الاجتماعية التقليدية والأسرية. فبعض الشباب يقضون مع شلتهم من وقت الفراغ أكثر مما يقضونه مع أهلهم - في الحضر وفى السفر. وصارت وظيفة المنزل لبعضهم أقرب ما تكون للخدمة الفندقية. وكثير منهم يأنف من المشاركة في النشاطات والمناسبات الاجتماعية العائلية والدينية والثقافية إلا بشقّ الأنفس. هذا الانشقاق بين مجتمع الشباب ومجتمع الكبار يضعف بنية المجتمع ونشاطه وتطوره، لأنه يهدر تفاعل الشباب وحماسه، ويضعف الانتماء إلى قيمٍ مشتركة، لذلك لا بد من إعادة اللحمة بين الطرفين. ولست أرى أنسب من المدرسة لهذه المهمة. ولكن لأي هدف، وبأية كيفية؟

لن يكون الهدف ردم الفجوة الثقافية؛ فإنه لا يمكن سلخ ثقافة جيل الكبار لتسكن في عقولهم ثقافة جيل الشباب، وليس صحيحاً زرع ثقافة جيل الكبار في عقول الشباب الطريّة لأن في ذلك عكساً لاتجاه التطور الطبيعي. الهدف إذن هو بناء جسر بين الثقافتين يحافظ على تلاحم المجتمع،والحيلولة دون اتساع الفجوة الثقافية، وبناء الشخصية الاجتماعية للطالب التي تمحو الشعور بالغربة أو العزلة عن مجتمعه الكبير.

أما الكيفية فهي مبذورة في التربة المدرسية الخصبة، ولا تحتاج إلا إلى السقيا والرعاية لكي تنبت نبتاً صالحاً وفعالاً. فالمجتمع المدرسي هو المؤسسة الوحيدة التي تجمع أعداداً غفيرة من المتقاربين في السن خلال وقت متصل ما بين السابعة صباحاً والواحدة ظهراً، وتخضع لنظام إشرافي واحد يطبق بنفس المنهجية على كل الطلاب، فإذا توافر في المدرسة مؤهلون مدربون على الإرشاد الاجتماعي أمكن تخصيص وقت كافٍ لعمل برامج مجدولة طوال العام للنشاط الطلابي الاجتماعي داخل وخارج المدرسة ضمن مناهج التعبير، والتربية الوطنية والرياضية، وبالتوسع في الأنشطة اللاصفية.

ما هو المطلوب؟

أولاً: تخفيض حصص بعض المقررات.

ثانياً: تشجيع المشاركة الفعالة في تلك الأنشطة من خلال المكافأة بدرجات إضافية.

ثالثاً: تصميمها بحيث يكون لكل طالب فرصة المشاركة في أكثر من نشاط.

رابعاً: تنظيم معظم الفعاليات على مبدأ المشاركة الجماعية بين الطلاب وأفراد من المجتمع حسب نوع النشاط. من أمثلة ذلك:

1- تنظيم مسابقات وعروض ثقافية ورياضية وفنية يدعى لحضورها والمشاركة فيها أولياء الأمور وآخرون من المجتمع المحلي(الحي)، مع تكريم المشاركين.

2- تشجيع الطلاب والطالبات على المشاركة في المناسبات الاجتماعية والوطنية وحملات التطوع ومطالبتهم بكتابة مواضيع التعبير عنها كواجب مدرسي، إلى جانب رصد درجات لها في سجل النشاط اللاصفي.

3- حث أولياء الأمور لحضور اللقاءات التي تنظم مع مدرسي المواد ومشرفي الأنشطة. إن إ بداء الاهتمام يقوّي المحبة والاحترام.

4- تنظيم برامج مشتركة بين مدارس الحي ولجان التنمية الاجتماعية في الأحياء.

5- تقدّم حصص التربية الوطنية (إذا طورت مناهجها) فرصاًً جيدة للطلاب للتعرف من خلال الزيارات على مؤسسات المجتمع المدني وعلى الأجهزة الحكومية وعلى مرافق الرعاية الصحية والاجتماعية. إن ذلك يقوّي روح الانتماء للمجتمع الذي تخدمه.

وهذه الدعوة لا تبتكر جديداً، وإنما تدعو إلى تفعيل وتكثيف الأنشطة التي يُمارس بعضها على استحياء وبشكل غير فعال، أو تُوجّه لغير ما ينمّي الشخصية الاجتماعية للطالب.

لكن هل هذا يكفي؟ الناشئون يحبون الحركة والمرح، فماذا يقدّم لهم المجتمع الكبير بكل أطيافه ومؤسساته من مساحة حرة يفرغون فيها طاقاتهم الشبابية، وليس فيها حواجز أو تحفظات - كما هو الحال الآن؟ وماذا بوسع المدرسة أن تفعل لفئة من الناشئين تعاني من فجوة عاطفية وفراغ وجداني يدفعها للانحراف؟ هذه أسئلة تُوجّه للكبار.

مقالات أخرى للكاتب