Saturday 31/05/2014 Issue 15220 السبت 02 شعبان 1435 العدد
31-05-2014

معنى أنَّ المَنْطقَ صُورِيٌّ:

كتب أستاذ الفلسفة بجامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية (ويزلي سالمون) كتاباً عن المنطق ترجمه الدكتور جلال موسى وقدم له الدكتور محمد علي أبوريان، وصدر بطبعته الثانية عام 1986م عن الشركة العالمية للكتاب.. ولقد فرَّق المؤلِّف في هذا الكتاب بين البرهان والاستدلال..

ووجودُ الفارق صحيح من جهة الصيغة لا المادة؛ فكل دليل برهان، وليس كل استدلال برهاناً، وكل برهان دليل، وليست كل برهنة برهاناً؛ فقد تكون البرهنةُ والاستدلال بمغالطات وتضليل.. وحقيقة البرهان التي انطلق المؤلف في تقريره من مثالٍ من مغامرات (شارلوك هولمز) عن كتاب لم ير النور بالعربية بعد، وهو كتاب (مغامرة العقيق الأزرق/ مغامرات شارلوك هولمز) تأليف آرثر كونان دويل [انظر المنطلق تأليف (لويلزلي) ص16 [حاشية]، ولا أعلم عن هذا الكتاب شيئاً، ولا عن مؤلفه سوى إشارةٍ لجبُّور عبدالنور في المعجم الأدبي ص356 عن (و 10. دويل 1859 -1930م أنه من الكتاب البارزين الإنجليز في عهد الملكة (فكتوريا) في مَصَفِّ برنارد شو وغيره].. وقصة المثال أنه وقع في حوزة شارلوك قُبَّعة عتيقة من اللُّبَّاد، فعلم أن صاحب القُبَّعة ذو أوصاف كثيرة من بينها أنه ذو ثقافة عالية، وأقام للدكتور (واطسون) البيِّنة على سعة القُبَّعة بأن وضعَ شارلوك القبعة على رأسه [رأس شارلوك نفسه]؛ فغمرت جبينه، واستقرت على عاتق أنفه.. ثم قال شارلوك: إن رجلاً بهذا المخ الكبير لابد وأن ينطوي مُـخُّه على شيئ ما !!.. وأورد ويزلي هذه البينة في صورة البرهان المنطقي من ست قضايا؛ فالخمس الأُوَلُ مقدمات، والسادسة نتيجة على هذا النحو: (هذه قبعة كبيرة / شخص ما صاحب هذه القبعة / أصحاب القبعات الكبيرة أناس ذوو رؤوس ضخمة / الناس ذوو الرؤوس الضخمة لهم أمخاخ كبيرة / إذن صاحب هذه القبعة ذو ثقافة عالية).

قال أبوعبدالرحمن: ههنا أشياء تتعلق بالمصطلحات؛ فالنتيجة تُسمَّى قضية، وكل واحدة من المقدمات تسمى قضية، والبرهان هو جميع المقدمات، والمُحصَّل في كلِّ السياق مدلول البرهان وليس هو البرهان نفسه.. وقد تكون نتيجةُ برهانٍ مقدمةً في سياق برهان آخر، وتوصف النتيجة بأنها قضية مُؤيَّدة بصيغة اسم المفعول، وكل واحدة من المقدمات تسمى بَيِّنَة.. وتكون المقدمات برهاناً، ولا يكون المنطق في مثل هذا الاستدلال صورياً؛ بل يكون برهاناً حقيقياً إذا كان بين المُـقدِّمات وبين البرهان المنطقي وبين النتيجة علاقة، وتُسمَّى المُقدِّمات والنتيجة معاً برهاناً إذا أريدت من صورة البرهان المنطقي.. وإذا أريدت الحجة من صورة البرهان المنطقي فالمراد بالبرهان النتيجة وحسب.. هذا هو اصطلاح أهل المنطق المُعبِّر عن مرادهم؛ فالأمانة تكون بالمحافظة على مرادهم إذا أردتَ الاستدراك عليه.. مع أن إثبات الحقائق لا يحتاج إلى مقدمات البرهان المنطقي الذي يسمونه قياساً.

والحجة في المقدمات تقوم من جهتين: أولاهما أنهن مُستَمدَّات من الواقع، وأخراهما أنهن بيِّناتٌ على النتيجة.. ومعنى كونهن بينات على النتيجة أن يكون لهن علاقة بالنتيجة؛ فقد تكون المقدمات صادقات ولا يكنَّ برهاناً لانتفاء العلاقة بالنتيجة، وهذا هو نموذج المنطق الصوري.. بل قد تكون النتيجة صادقة أيضاً إلا أنها ليست نتيجةً فعلية لتلك المقدمات الصادقة لانتفاء العلاقة؛ ولهذا لا يكون سياق تلك المقدمات وتلك النتيجة برهاناً منطقياً.. مثال ذلك (كل الثَّدْيِيَّات مائتة.. كل الكلاب مائتة.. إذن كل الكلاب ثدييات) !!.

قال أبوعبدالرحمن: حافظتُ على التعبير بكلمة (مائتات) الواردة في كتاب (ويلزي سالمون)، وهي تعبير صحيح لغوياً إذا أريد اسم الفاعل، ولا معنى لذلك في هذا السياق، و (مَيْت) صحيحة بتخفيف الياء ذات النقطتين من تحت؛ لأن الفَعْل بسكون العين المُهملة وفتح الفاء تعني المُتَّصِف بالموت، ولكن المشهور صيغة المبالغة (مَيِّت)؛ لأن حقيقة الموت تقتضي هذه الصيغة.. وبيَّن ويزلي انتفاء العلاقة بين المقدمات والنتيجة بقوله: « المقدمات ستظل صادقة وإن كانت الكلاب زواحف وليست ثَدْيِيَّات، وتكون النتيجة صادقة ولكن ليس ثمة شيئ في المقدمات يُقدَّم أيَّ أساس لها «.

قال أبوعبدالرحمن: هذا سهو أنتج غلطة صلعاء؛ فالمُقدِّمة الأولى صادقة بالبراهين من خارج المقدِّمة، وهكذا الثانية، وأما النتيجة (إذن كل الكلاب ثدييات) فهي نتيجة كاذبة من أكذب الكذب؛ فليست برهاناً صورياً يعتمد على المثال الافتراضي، وليست برهاناً حقيقياً بأمثلة واقعية، بل هي نوع ثالث، وهو المغالطة والتضليل؛ فليست حتمية الموت للكلاب والثدييات بِمقْتضٍ أن تكون الكلاب ثدييات.

قال أبو عبدالرحمن: أعكس هذا المثال بمثال آخر هو: (بنو عامر بن صعصعة من هوازن، وبنو عُقَيل من بني عامر: إذن بنو عُقَيل من هوازن)؛ فهذا مثال صحيح يخدم منطق أرسطو في دحض مُقَدِّماتِ السوفسطائيين التضليلية، وليس هو برهاناً على أن بني عُقَيل من بني عامر، وأن بني عامر من هوازن.. بلِ البرهانُ على ذلك من الخارج، ولا يحتاج البرهانُ الخارجي إلى هذا القياس المنطقي، ولكنَّ هذا القياس برهان واقعيٌ غير صوري إذا سلَّم الطَّرَفان ببراهين عندهما أن بني عُقَيل من بني عامر، وأن بني عامر مِن هوازن.. ومَن سَلَّم بالمُقَدِّمات المُنْتِجة لزِمه البرهان بالقياس المنطقي.. والآن أعود إلى تحقيق مثال (شارلوك): أهو برهان واقعي، أو صوري، أو مَغْلَطائي ؟!!.. فأول ما نواجه أن نصَّ المقدمة الثانية (شخصٌ ما صاحب هذه القُبَّعَة) وقد لا يكون للقبعة شخص؛ لاحتمال مبالغة الخياط في سعتها، وأنها لم تكن في قياس مالِكها؛ وحينئذٍ لا يكون مالِكُها هو صاحبَها.. أي ليس هو الشخصَ الذي يُسْتَدَلُّ بسعتها على كبر جُمْجمَتِه.. ولكن هذا الاحتمال يُدفْع بمجرى العادة، وهو العلم بجماجم تسع هذه القبعة، والعلم بأن الخياط لا يعبث بعمل قُبَّعة لا تسع رأس أحد من البشر.. كما أن هذا الاحتمال غيرُ مُؤثِّر؛ لأن القُبَّعة الواسعة ناسبت الرجل الحاضرَ غيرَ المجهول وإن لم تكن مخيطة من أجله، وهو (شارلوك) نفسُه؛ إذن المُقدِّمة الثانية إلى هذا الحدِّ مُـحْتَمَلةُ الصدق صورياً إلى أن نجد مثالاً واقعياً؛ بأن يكون (شخص ما) شخصاً مُتعيِّناً معروفةٌ حالُ جمجمته بالمشاهدة.

ونجد نصَّ المقدمة الثالثة: (أصحاب القبعات الكبيرة أناس ذوو رؤوس ضخمة)، ويَرِدُ على هذه المقدمة أن صاحب القبعة الكبيرة قد يكون امتلكها وهي أوسع من رأسه؛ فعالجها بلباس تحتَ رأسه؛ فتظل المقدمة مُـحتمَلة الصدق صورياً.. ونجد نصَّ المقدمة الرابعة: (الناس ذوو الرؤوس الضخمة لهم أمخاخ كبيرة)؛ فهذه المقدمة مشروطة بشرط مُـهْمَلٍ ههنا، وهو أن يكون الرأس الكبير سليماً من الآفات؛ وإذن فما يدرينا أن صاحب القبعة ذو رأس كبير بسبب الورم؛ وحينئذ لا يكون كِبَرُ الرأس دليلاً على كِبَرِ المخ، ولابد من برهان خارجي أْنضجتهُ التجرِبة على أن ذا الرأس الكبير ذو مُـخٍّ كثير كبير؛ فالمقدمة إذن نوع رابع، وهو اللغو؛ فليست برهاناً واقعياً، ولا صورياً، ولا مَغلطائياً.

ونجد نص المقدمة الخامسة: (الناس ذوو الأمخاخ الكبيرة ذوو ثقافة عالية)؛ فالمقدِّمة هذه لغو أيضاً؛ فلابد من بُرهان أنضجته التجربة على أن ذا الرأس الكبير ذو مُخٍّ كثير كبير، وأن صاحب المخ بذلك الوصف ذو ثقافة عالية.. وهذه (أي المُـقدِّمة الخامسة) أكثر فضولاً؛ لأنه يدفعها احتمال أن ذا الأوصاف تلك غيرُ حتميِّ الثقافة العالية؛ لأن الثقافة العالية نتيجة قراءة وسماع وانتقاء، وقد يُعطِّل الموهوب موهبتَه، فلا يحصل له ثقافة عالية؛ وهذا أمر مُشاهَد؛ وحينئذ لا يكون المخ الكبير دليلاً على الموهبة ولا على الثقافة العالية.

ونجد نصَّ القضية السادسة وهي (النتيجة): (صاحب هذه القبعة ذو ثقافة عالية)، وقد مضى بيان حال الثقافة؛ وإذن فقد بدأ البرهان صورياً وانتهى إلى فضولي.

قال أبوعبدالرحمن: ما دام في المقدمات فضول، وما دام بعضها يحتاج إلى قيود فينبغي صياغة البرهان على هذا النحو: (هذه قبعة كبيرة إن كان صاحبها الذي يلبسها سليمَ الرأس بلا ورم، ولم يكن يعالجْ سعتَها بلباس تحتها بل كانت على قدِّ رأسه / صاحبها ذو رأسٍ كبير / كبير الرأس ذو مخ كبير / ذو المخ الكبير ذو موهبة / إذن صاحب القبعة ذو مخ كبير، وذو موهبة).. فهذا برهان صوري في البداية، ثم صار فضولياً، فهو برهان صوري فضوليٌّ غيرُ منتج؛ وبَطَلَ بهذا زعم (وِيْزلي) أن هذا القياس المنطقيَّ مُـنْتجٌ، وأن العلاقة موجودة بين المقدمات والنتيجة، وأنها علاقةً كشفت عن كون النتيجة مبدَّدة ضمناً في المقدمات.

قال أبوعبدالرحمن: مَن أقر بصدق المقدمات واقعاً، ووجد الارتباط الواقعي بينها وبين النتيجة: لزمته النتيجة نفسها.. والمؤلف (ويزلي) يرى هذه الصورة من التركيب برهاناً ما دام منتجاً بغض النظر عن الصدق في الواقع.. قال: (حين يُقدَّم برهان ما للتحليل المنطقي يكون التساؤل عن صلة المقدمات بالنتيجة موضعَ بحث؛ فالمنطق يبحث في العلاقة بين المقدمات والنتيجة، وليس في صدق المُقدِّمات.. والذي دَفَعَه إلى التمسك بصوريَّة المنطق وفضوله ومَغْلطائيته فصلُه بين المعرفة والمنطق، فالمنطق عنده علم يُمِدُّنا بأدواتٍ لتحليل البراهين، ثم قَصَرَ التحليلَ على العلاقة بين النتيجة وما يؤيدها من بيِّنات.. قال: (إن المنطق يعالج البراهين والاستدلالات؛ ذلك أن أحد أغراضه الرئيسية هو تزويدنا بالمناهج التي تُمَـكِّننا من التمييز بين ما هو صحيح منها منطقياً وما هو فاسد).

قال أبوعبدالرحمن: يُنْظَرُ إلى المنطق من جهتين:

أولاهما: من ناحية صُوريَّته، ومعنى صوريته أن تكون أمثلةُ مقدماته ونتيجتُه افتراضيةً.. والعلوم تُشرح للطلبة بالأمثلة الواقعية، والافتراضية، والتخييلية؛ فنشرح الفعل والفاعل والمفعول به بضرب زيدٌ عَمْراً، ولا يكون لهذا الخبر المُـفتَرض مثالاً وجودياً في الواقع عن حقيقة الخبر عن رجلين بهذين الاسمين وقع من أحدهما الحدَثُ، ووقع الحدث على الآخر.. وهكذا المنطق إذا أريد تصويره للطلبة يلزم أن تكون مقدماته منتجة بغض النظر عن صدقه في الواقع.

وأخراهما: استخدامُ المنطق وتطبيقه، فلابد من كون المقدماتُ مسلَّمةٌ من الطرفين؛ لِتَلْزمهما النتيجةُ وينقطع الخلاف.. وإذا نازع مَن لم يُسلِّم بالمقدمات فلا بد من اختبار المقدمات بوسائل المعرفة؛ فتكون صادقة أو كاذبة تضليلاً أو صورية أو فضولية يقيناً، أو رجحاناً أو احتمالاً مستويَ الطرفين، ويكون الوثوق بنتيجة البرهان تبعاً لدرجة الوثوق بتلك المقدمات.. والذي يرغب أن يكون المنطق في التطبيق منتجاً صورياً غير ملتزم باختبارِ المعرفةِ صِدْقَ المقدمات: إنسانٌ عابث هازل في موضع الجد؛ بل لابد من تناغم المعرفة والصناعة المنطقية عند البرهنة على الأشياء؛ لأن وظيفة المنطق اختبار الأدلة والبراهين؛ لتكون صحيحة منتجة ملزمة، فوسائل المعرفة تمتحن صحتها، وصناعة المنطقي تمتحن إنتاجها، وصناعة الجدلي تبين لزومها.. ولا تكون المقدمات منتجة في استعمال المنطق تطبيقاً حتى تكون المقدمات صادقة أو مُسَلَّمة.. إن البرهان تنظيم معارف، وإنتاج معرفة من معرفة؛ فإن أنتج المنطقي من مقدماتٍ غير صادقة ولا مُسلَّمة قيل عن نتائجه: (إنها افتراضية، أو وهمية، أو متخيلة..إلخ)، وإن أنتج من مقدمات مُختَبَرة بوسائل المعرفة قيل: (إن نتائجه حقيقية بيقين أو رجحان، أو مُحتمَلة يكون فيها التوقف).. ويتجلى دور ذي الصناعة المنطقية في كشف المغالطة في مقدمات صادقة ونتيجة صادقة مثل: (كلُّ الثدييات مائتة.. إلخ)؛ فالثدييات تموت بلا ريب، ويموت غيرها.. والكلاب تموت، ويموت غيرها؛ فهاتان مقدمتان صادقتان.. وكل الكلاب ثدييات قضية كاذبة تضليلية؛ لأن الكلاب ليست ثدييات.

قال أبوعبدالرحمن: المنطق الأرسطي ليس نظرية للمعرفة عاصماً للذهن من الخطإ بإطلاق، ولكنه من أجل تحليل مقدمات تضليلية وضعها السوفسطائيون قبل أرسطو تحذيراً مِن تضليلها، وإلى جولة أخرى مع هذه المسألة إن شاء الله، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب