Tuesday 03/06/2014 Issue 15223 الثلاثاء 05 شعبان 1435 العدد

«الجزيرة» تقلب في تاريخ فنان العرب من الفقر إلى المجد «الجزء الأخير»

1967م هو التاريخ الحقيقي لانطلاق المنافسة بين محمد عبده وطلال مداح

كتب - عبدالله الهاجري:

في الجزء الرابع والأخير من أوراق فنان العرب محمد عبده والذي كتبه الراحل محمد صادق دياب عن تاريخ فنان العرب منذ ولادته وحتى اعتزاله المجال الفني في بداية التسعينات من القرن الماضي، نقص هنا كيف خطف الراحل طلال مداح أغنية من فنان العرب والتي تعتبر هذه الأغنية هي الشرارة الأولى في المنافسة بين قطبي الأغنية السعودية، وكيف كانت علاقتهما ببعض خارج المنافسة، وماذا استفاد فنان العرب من فشله في أول عمل تمثيلي له، وكيف أنطلق إلى القاهرة ومن بعدها للعالم ومن أهم الأسماء في مشوار فنان العرب.

طلال يخطف (مقبول)

بواسطة من الشاعر (الغريب) أوشكت المياه أن تعود إلى مجاريها بين الملحن عمر كدرس ومحمد عبده، وأسهم (الغريب) في تحقيق هذه الغاية بتأليف نص غنائي بعنوان (مقبول منك كل شيء مقبول) ليتغنى به محمد عبده من ألحان الكدرس، وعادت اللقاءات بينهما من جديد، ومارس محمد مع الكدرس أسلوبه المعتاد في الحذف والإضافة والتكييف للحن قبل أن يذهبا سوياً إلى بيروت عام 1967 م لتسجيله هناك، وفي الصباح حينما خرج محمد من بوابة ذلك (البنسيون) ليركب العربة التي ستقله إلى الإستديو لتسجيل (مقبول) فوجئ بوجود الفنان طلال مداح إلى جوار الكدرس داخل العربة، وما أن وصلا الإستديو حتى تعالى صوت طلال مداح خلف الفرقة الموسيقية يردد (مقبول منك كل شيء مقبول).

وارتفعت درجة حرارة محمد عبده في ذلك اليوم إلى أقصى مداها غضباً على الكدرس وهو يستمع إلى اللحن الذي أسهم في تطويره يتغنى به طلال بصوته العذب.

ويمكن القول إن ذلك الصباح يعتبر التاريخ الحقيقي الذي اشتعلت فيه المنافسة الحقيقة بين قطبي الأغنية السعودية طلال مداح ومحمد عبده، إذ لم يستطع محمد أن ينام في تلك الليلة قبل أن يفرغ من إنجاز واحدة من أشهر أغنياته، هي (الرمش الطويل) من كلمات الغريب وألحان محمد عبده نفسه، وقد أراد بذلك اللحن أن ينتقم لنفسه من طلال والكدرس سوياً.

وكان له ما أراد، فقد تفوقت (الرمش الطويل) بعد ذلك في مسرح التلفزيون على (مقبول منك كل شيء مقبول)، ودخلت عبارة (الرمش الطويل) عالم الموضة فأطلقت على أنواع من الأقمشة والسيارات، وحتى السجائر.

ما لا يعرفه الجمهور

يقول محمد عبده: (على الرغم من حدّة التنافس المُعلن آنذاك بيني وبين طلال والكدرس وغيرهما من الفنانين، فإن مالا يعرفه الجمهور أننا كثيراً ما كنا نعيش سوياً خلال أسفارنا إلى الخارج في شقة واحدة، نسهر ونمرح سوياً، ولكن لكل منا عالمه الفني المستقل عن الآخر، فالعلاقة مثلاً بيني وبين الفنان طلال مداح بعيداً عن الفن هي علاقة أخوية رائعة، ولعل التنافس النبيل الذي استمر عقوداً من الزمن بيني وبين طلال هو الذي حقق هذا الإنجاز الفني الكبير لطلال مداح ومثله لمحمد عبده.

والآن بعد ركب السنين ومشاوير العمر لو سألتني عن طلال مداح لقلت لك: (أنه أول صوت نقي طروب جميل سمعناه على الساحة الخليجية في حياتنا المعاصرة، كما أن الكدرس يظل في عيني، رغم المد والجزر الذي أعترى علاقتنا في السابق، عازف العود السعودي الأول، والملحن من الدرجة الممتازة وتظل لألحانه تلك النكهة الخاصة التي يحتاج إبرازها إلى شيء من التنسيق).

مصر.. والنضج الفني

مصر بأهراماتها الفنية، عبدالوهاب وأم كلثوم والسنباطي والقصبجي وفريد الأطرش وأحمد فؤاد حسن، ظلت حلماً في دواخل فنان العرب لم يتحقق إلاّ في عام 1969م حينما التقى في الكويت بميشيل المصري قائد فرقة الإذاعة الكويتية آنذاك، وكان ميشيل يعتزم العودة إلى وطنه مصر بعد سنوات طويلة من الغياب، فعرض على محمد عبده أن يذهب معه للاستفادة من الإمكانات الموسيقية الهائلة في مصر، فأشعلت تلك الدعوة فتيل حلمه، لكن كيف يتمكن، وهو المجهول هناك من الوصول إلى عالم الكبار هؤلاء، خاصة وأن ما عرف عنه إباء يمنعه من عرض نفسه على الآخرين، مهما بلغ حجم إعجابه بهم أو حاجته إليهم.. فآثر أن يشكل مع ميشيل المصري فرقة صغيرة من طلبة معهد الموسيقى العربية لكي يلفت أنظار الكبار إليه عوضاً من الذهاب إليهم. وكان يحمل في دواخله منذ البدء رسالة وطنية تتجاوز ذاتية الفنان وطموحه الفردي إلى أغراض أكبر وأسمى، وهي مسؤولية تقديم الأغنية السعودية وتحقيق انتشارها، لذا كان من أكثر الفنانين حرصاً على الاحتفاظ بخصوصيته أثناء تعاملاته الفنية مع الآخرين.

وفي غرفة صغيرة مستأجرة بثلاث جنيهات في معهد الموسيقى العربية، راحت تلك الفرقة الصغيرة من طلبة المعهد تعزف بقيادة ميشيل المصري أعذب الألحان السعودية مثل (لا تحاول) كلمات الأمير الراحل محمد العبد الله الفيصل، و(لا تناظرني بعين) كلمات إبراهيم خفاجي وألحان طارق عبدالحكيم.

وتحقق للفنان محمد عبده بعد ذلك ما أراد، فقد سبقه صوته إلى قائد الفرقة الموسيقية أحمد فؤاد حسن ليرحب به كأول مطرب سعودي ينطلق صوته بمصاحبه أشهر الفرق العربية الموسيقية قاطبة، وهي الفرقة الماسية بقيادة فنانها الكبير الراحل أحمد فؤاد حسن، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت القاهرة واحدة من أهم العواصم العربية التي شهدت مراحل هامة من مشوار فنان العرب ونضوجه الفني.

فشل تجربة التمثيل

في مطلع السبعينيات الميلادية رغب الفنان الكوميدي حسن دردير بالتعاون مع التلفزيون السعودي في إنتاج مسلسلين غنائيين إحداهما بطولة طلال مداح والآخر بطولة محمد عبده، ولم تكن فكرة التمثيل قد راودت الفنان محمد عبده من قبل، لكنه آثر أن يخوض تلك التجربة التي كانت مألوفة لدى المطربين آنذاك أمثال فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ ومحرم فؤاد وغيرهم، فلعب دور البطولة في مسلسل (أغاني في بحر الأماني) أمام الممثلة فاطمة مظهر، ويصف محمد عبده تجربته في ذلك المسلسل فيقول: (فشلت في التمثيل في ذلك المسلسل كما فشل طلال مداح في المسلسل الآخر، لكنني استطعت أن أخرج من ذلك المسلسل بمجموعة كبيرة من أنجح أغنياتي، فلقد التقيت في ذلك المسلسل لأول مرة بشعر الأمير بدر بن عبدالمحسن الذي أعتبره مهندس الأغنية الحديثة بلا منازع).

الانطلاقة

يصف محمد عبده عام 1973م بأنه العام الذي رسخت فيه الأغنية السعودية انتشارها خارج الحدود حيث بدأت القنوات الإعلامية والثقافية انفتاحها على الفن السعودي، وأصبح للفنان السعودي وجوده البارز للحفلات وبرامج التلفزيونات العربية، وقدم محمد عبده في ذلك العام رائعتيه (الرسائل) و(ايوه)، فتذكر محمد عبده أنه في ذلك العام نشرت إحدى المجلات المصرية الشهيرة كاريكاتيراً يشير إلى أنه لأول مرة يستوعب المصريون صوتاً من خارج مصر بعيداً عن التأوهات، وتزامن ذلك مع نشر الفنان صلاح جاهين كاريكاتيره الشهير والساخر عن محمد عبده.

ومنذ العام 1974م بدأ التركيز على إنتاج (الكاسيت)، فكان نصيب محمد عبده منه في ذلك العام والأعوام التي تلته الكثير من الإنجازات التي ضمت أعمال فنية رائدة مثل، (ابعاد) و(في الجو غيم) و(صمت الشفايف) وغيرها من الروائع.

الانتشار عالمياً

أما في عام 1977م فتمكن الفن السعودي، بريادة محمد عبده وطلال مداح، أن يجتاز خارطة الوطن العربي إلى أوروبا لتشهد كبريات العواصم هناك، مثل لندن وباريس وجنيف، أعداداً كبيرة من الحفلات الفنية التي كان أحد أوائل نجومها فنان العرب محمد عبده.

ويصف محمد عبده ذلك التواجد على المستوى الأوروبي أو العالمي بأنه كان (خطوة ضرورية لتحقيق غايات نشر الأغنية السعودية وتوسيع قاعدة جمهورها بإضافة شرائح جديدة تتمثل في السيّاح العرب في أوروبا والمهاجرين المقيمين هناك).

اعتزال الحفلات الفنية

إذا كان من الممكن القول أن أول ظهور فني للفنان محمد عبده كان في حوالي عام 1960م فإنه على مدى خمسين عاماً قضاها في ساحة الفن، قد استطاع هذا الفنان الذكي الموهوب أن يؤسس له في تاريخ الغناء العربي مكاناً ومكانة لا يشكك في استحقاقه لهما إلا جاهل أو متجاهل، فلم يكن محمد عبده قط مجرد فنان عابر في زمن عابر، فهو فنان يعيش في وجدان هذا الزمن كعلم من أعلامه، ورائد من رواد فنه.

ولقد آثر فنان العرب بعد هذه الرحلة الطويلة المليئة بالإنجازات والروائع، الحافلة بالعطاء والتضحيات، أن يزيح عن كاهله بعض أعباء الفن وتبعاته، فقرر منذ مطلع التسعينات اعتزال الحفلات الفنية العامة مكتفياً بين حين وآخر بتقديم بعض إبداعاته على العود أو من الحالية بالفن بقوله: (أنا لم أعتزل الفن، ولكنني اعتزلت المجال الفني).

أسماء في مشوار محمد عبده

يعترف الكثيرون بأن ذكاء محمد عبده يسهم كثيراً في تعميق علاقاته بالآخرين، بل ويبالغ البعض في القول بأن كل كلمة ينطق بها محمد عبده لا يمكن أن تكون عفوية وتلقائية، فهو يخضع ما يقوله لرقابة ذهنية صارمة، لذا غالباً ما تكون كلماته أكثر دقة وتحديداً ومعنى حتى من الأصدقاء المقربين منه.

ولعل ما يهمنا هنا هي تلك العلاقة التي ربطت بين محمد عبده ومجموعة من الشعراء والملحنين الذين كان لهم حضورهم الأكثر كثافة في مشوار هذا الفنان أمثال خالد الفيصل وبدر بن عبدالمحسن ومحمد العبدالله الفيصل وإبراهيم خفاجي والفنانين عمر كدرس وطارق عبدالحكيم وعبدالله محمد وسامي إحسان وسراج عمر ومحمد شفيق وغيرهم.