Saturday 14/06/2014 Issue 15234 السبت 16 شعبان 1435 العدد
14-06-2014

الوطن العربي.. والوحدة

العالم العربي رقعة جغرافية لها حدود طبيعية معروفة: الخليج العربي، والمحيط الأطلسي، والبحر الأبيض المتوسط، والمحيط الهندي والصحراء الكبرى.. ويعاني هذا الوطن مشاكل على المستويات الثلاثة المحددة للهوية: المسألة السياسية، والمسألة الإثنية،

والمسألة الثقافية، فالعالم العربي تخترقه دول مختلفة لها أنظمة سياسية متعددة، وهي ليست موطناً لجماعة إثنية واحدة بل لعدة مجموعات لها مشارب إثنية متباينة، كما أن الوطن العربي يعرف سياسات ثقافية مختلفة من نظام تعليمي، وتوجيهات ثقافية وإيديولوجية وبرامج خاصة، ولكن تبقى الثقافة العربية هي العامل الأساس بل الوحيد للشخصية العربية والوحدة العربية، فهناك مقومات عديدة وأساسية للوحدة العربية كاللغة والدين والتاريخ، ولكن هذه المقومات، هي مجرد عناصر في كل، وليس هذا الكل شيئاً آخر غير الثقافة العربية فهي في الوقت نفسه لغة ودين وماضٍ مشترك ومستقبل مأمول، ومن هنا وظيفتها التاريخية أو وظيفتها التوحيدية، وهي هويتها نفسها، لا بل ماهيتها نفسها.

فالثقافة العربية هنا هي مقوم من مقومات مفهوم الوطن العربي على رغم التباين اللغوي الاشتقاقي الذي نلمسه في لغتنا العربية بين مفهوم الوطن كرابطة جغرافية مادية (الأرض) والأمة كرابطة روحية اجتماعية كالأصل والدين.

فعيد الأضحى المبارك الذي يحتفل به الملايين من البشر مثلاً، من بين ما يجمع بين الأقطار العربية بصورة متواصلة، في الماضي كما في الحاضر (الرابطة القطرية) وبين المسلمين كلهم في أنحاء المعمور (الرابطة الروحية)، وليست السياسة أو الاقتصاد أو برامج التعليم هي التي تجمعهم على شاكلة بعض الأقطار الأخرى.

وإذا فهمنا هذا الكلام، فإن الحديث عن خصوصيات مغاربية وأخرى مشرقية أمر مشروع ومؤكد، ولكن ليس من قبيل الاختلاف الجوهري الذي يحدث تباعداً وفصلًا بين محددات الشخصية العربية المشرقية والشخصية العربية المغربية، وهي ليست أوسع اختلافاً وأكثر تبايناً من الاختلاف بين المغاربة والجزائريين والتونسيين أنفسهم أو بين الإماراتيين والقطريين والكويتيين مثلاً.

وكثيراً ما نسمع من طلبتنا في الجامعات وزملائنا في العمل أنهم يعرفون كل شيء عن أهل المشرق، وهؤلاء لا يعرفون شيئاً عن فاس أو الرباط أو قسطنطينة أو تونس أو طرابلس ولا عن عاداتهم أو همومهم، وهذا كلام صحيح لم يبَن على فراغ ولكن أيضاً لا ينبغي المبالغة فيه أو رده إلى إرادة تجاهلية دفينة من إخواننا في المشرق بقدر ما ينبغي رده إلى كون أحداث المشرق العربي السياسية الساخنة تشغل بال الخاص والعام في كل الوطن العربي... فالمنطقة على جيرة مباشرة مع الكيان الصهيوني وتخترقها ويلات الحروب والتأثيرات الإقليمية والدولية بسبب حساسيتها، كما أنها تتوفر على مخزون هائل من النفط تحت صحاريها مما يجعلها قبلة لحضور إعلامي عربي ودولي قلَّ نظيره، ويكفي أن تتصفح كل الجرائد والمجلات الدولية الأكثر قراءة فتجدها تخصص أكثر من 90 في المائة، عند تناولها للحدث العربي، لمنطقة المشرق.

ثم هناك طغيان اللغة الأجنبية الفرنسية كلغة ثانية على معظم بلدان المغرب العربي خلافاً لدول المشرق العربي التي تنتشر فيها اللغة الإنجليزية بسبب قوة العامل الاستعماري الفرنسي والإنجليزي الذي ترك بصماته على الدول المستعمرة، وللأمر تأثيرات إلى يومنا هذا على البرامج التعليمية والثقافية وأنماط الحياة بل وحتى على منطق تفكير النخبة الجامعية والحاكمة التي تخرجت إما من الجامعات الفرنسية أو الجامعات الأنجلوساكسونية، ونلمس لمس اليد في دولنا المغاربية وللأسف الشديد ازدواجية لغوية ثقافية متحيزة جدّاً للغة الفرنسية وثقافتها، مما يسهل عملية استعداد الشعوب نفسيّاً وثقافيّاً لقبول استمرار الاستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي وكل تبعاته. ومعلوم عند علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا أن لغة المجتمع تؤثر تأثيراً كبيراً في تشكيل المعالم المميزة للشخصية القاعدية لأفراد المجتمع، وتساعد هذه النظرية على تفسير نماذج الشخصيات القاعدية لمجتمعات متقاربة جغرافيّاً كما هو شأن دول المغرب ودول المشرق.

إذن بين دول المشرق والمغرب تعدد واختلاف يجمعها، ويحتويها نزوع دائم إلى الوحدة والائتلاف يستمد وجوده واستمراريته وقوته من الوظيفة التوحيدية للثقافة العربية كلغة وكدين وكماضٍ وحاضر مشترك ومستقبل مأمول... ولكن مع ذلك تبقى الوحدة العربية بعيدة المدى.... فالنظام العربي يعيش أصعب أيامه اليوم وأعقدها لأن البيت العربي في طور التغيير ولا يمكن لأحد أن يتكهن المرحلة المقبلة؛ فأي نظام إقليمي أو عالمي يبقى رهيناً بالاَليات السياسية المتحكمة في كل قطر من أقطاره، ونوعية النظام السياسي المحدد لسياسته الخارجية؛ فالاتحاد الأوربي ما عرف توسعة نطاقه الجغرافي وإحكام اَليات اشتغاله إلا لأن دوله مجتمعة ارتوت من ماء الرزانة السياسية ومن بينها دول أوربا الشرقية التي عاشت ولعقود تحت المظلة السوفياتية، وما إن وقع الطلاق البائن بينها وبين موسكو حتى تغيرت سياستها الخارجية وأصبحت أكثر واقعية ومجاراة لقواعد التكتلات الإقليمية والجهوية والتي بدونها لا يمكن تصور وحدة إقليمية أو جهوية أو تصور قواعد اقتصادية وحدوية أو لبنات لتعاون تنموي بشري دائم.

التجربة الأوربية أعظم تجربة يمكن أن نستحضرها في هاته الفترة الحاسمة من تاريخنا العربي؛ لأنها تحيلنا على تجربة طويلة في الزمن ولكن لها من السمات ما يجعلها تشبه بعضاً من محددات النظام العربي الذي هو اليوم في إطار التكوين أو لنقل النشأة الجديدة؛ لا يسمح المقام هنا بسرد تاريخي لتكوُّن الوحدة الأوربية، ولكن فقط يمكن أن نشير إلى أن انضمام دول أوربا الشرقية إلى دول أوربا التقليدية ما كان ممكناً إلا لأن الآليات السياسية في تلك الدول تغيرت وأصبحت أكثر قابلية لتقبُّل قواعد الوحدة الإقليمية والخضوع لمبدأ ضرورة تجاوز الفكرة القطرية أو القومية إلى ما هو أعلى منها وأكثر ملاءمة لتطورات العالم المعاصر. هذا التجاوز يكون من الدولة الأمة إلى ما هو أعلى منها وأوسع وأعم، وهي الفكرة الوحدوية الإقليمية، ولا يتم ذلك إلا عندما تكون العوامل المسيّرة لتلك الوحدة مطابقة للعوامل المسيّرة لكل قطر من أقطارها؛ فلا يمكن تصور نجاح انضمام دول أوربا الشرقية إلى دول أوربا التقليدية لو لم يفتح المجال السياسي العام والمجال العمومي على المنافسة الاقتصادية الليبرالية الحرة، ولا إحكام عوامل الحكامة الجيدة ونظرة جديدة إلى التقسيم الترابي واللا مركزية والجهوية الموسعة؛ وتستوقفني هنا القوة التعاونية بين الجهات الأوربية المختلفة (أي بين جهات كل دولة والجهات في الدول الأخرى) فأُنشئت وحدات صناعية عابرة للقارات وشركات يُضرب لها ألف حساب كالإيرباص مثلاً، وهي حصيلة تعاون عدة جهات أوربية مجتمعة.

ثم ألا يحق لنا أن نتوقف أمام قوة الثنائي الفرنسي - الألماني في عملية البناء والتوسع بعد أن عاش هذا الثنائي ويلات حروب ثلاث في سنة 1870 و1914 و1939 حتى نتبين أن تجنب الرجوع إلى العداء لا يتم فقط بسبب الجوار الصالح وإنما بفعل الإرادة الحسنة المتجردة من الذات والبانية للمؤسسات والأفراد؛ وما زلت أتذكر وأنا طالب في الجامعات الفرنسية كيف أن برامج تعاونية على أعلى مستوى بين ألمانيا وفرنسا كانت تسمح بتبادل مستمر للطلبة في البلدين وفي جميع التخصصات وتفتح لهم دروساً خاصة في المواطنة الأوربية رغم أن بين اللغة الألمانية واللغة الفرنسية فرقاً كبيراً ولا يمكن للطالب الألماني أن يتفاهم مع نظيره الفرنسي إلا انطلاقاً من اللغة الإنجليزية أو بوجود مترجم؛ ونتذكر جميعاً أن الذي أنقد الاقتصاد اليوناني من الانهيار هو تدخل قطبي الاتحاد ألمانيا وفرنسا.

مقالات أخرى للكاتب