Saturday 21/06/2014 Issue 15241 السبت 23 شعبان 1435 العدد
21-06-2014

فتن الطائفية والتثوير والتهييج

فيليب شميتر وتيري كارل (وغيرهما كخوان لينز وألفريد ستيبان)، وهم من أكبر الدارسين والمختصين للانتقالات الديمقراطية في العالم، أكدوا في دراساتهم للتجارب العسيرة والمريرة التي مرت بها العديد من الدول

في أمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية والجنوبية، أن من بين الأنماط الأربعة للانتقالات السياسية المعروفة (عن طريق ثورة، عن طريق ديمقراطية مفروضة من الخارج، عن طريق تأثير الدول المجاورة أو عن طريق الميثاق التعاقدي)، يبقى نمط الميثاق التعاقدي أنجع وسيلة لتثبيت السلم الاجتماعي دون إراقة الدماء وزوال المؤسسات وهبة الدولة.

بالإمكان أن تكون للأنماط الأخرى تجسيد في بعض الدول، ولكن غالبا ما تحدث وتتقوى بوادر الفتنة لفقدان الحامية وضعف الدولة الحديثة، حيث تصبح مرتعا للمذاهب والطوائف والنحل ونهبا وطعمة لاَكلهم، يرددون عليها الغارة والنهب والزحف لسهولتها عليهم ولاختلاف الأيدي وانحراف السياسة.

أما الانتقال عن طريق ديمقراطية مفروضة من الخارج فيمكن تمثلها في تجربة العراق، حيث التغيير السياسي جاء على ظهر الدبابات والصواريخ الأمريكية؛ فمنذ ربيع 2003 والديمقراطية المفروضة في العراق بتراء مفتقرة إلى قواعد السياسة ولم يؤمن المسلسل فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصواب في تسيير الشأن العام وفتح المجال السياسي، واجتناب السقوط في بيداء الطائفية والمصالح الشخصية والثغرات الهدامة، ويكفي الرجوع إلى تقرير مركز دراسات الوحدة العربية السنوي عن حال الأمة العربية استنادا إلى الإحصاءات التي تتداولها مراكز البحوث والمنظمات الدولية لتمثل ذلك:

- خمسة ملايين أمي في العراق.

- مليونا أرملة.

- خمسة ملايين عراقي مهجرين في الداخل والخارج.

- خدمات تحت الصفر (كهرباء، ماء صالح للشرب، غذاء، دواء، بيئة).

- البلد الأول في السرقات من المال العام، والفساد الإداري (حسب منظمة الشفافية الدولية).

- انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.

- فوضى أمنية عارمة في العراق.

كما أن الحديث عن استعادة السيادة بعد الاتفاقية الأمنية وأن الإدارة العراقية أصبحت هي المتحكمة بالأوضاع في العراق يكذبه الواقع اليوم ولم يحدث ذلك تغييرا ملموسا على أرض الواقع، كما أن الانتخابات المختلفة وخاصة مجالس المحافظات لم تكن سوى خطوة في اتجاه تثبيت الحكم الطائفي والعرقي في هذا البلد.

التجربة السياسية الحديثة في العراق تدخل في نمط الديمقراطية المفروضة، وهي تمتد منذ سنة 2003، بمعنى أنه مر أكثر من عقد على التدخل الأمريكي في العراق، ولكنها لم تفلح لا في استتباب الأمن ولا في نشر السلم الاجتماعي ناهيك عن إحكام أركان المجال السياسي الحقيقي وهياكله.

أما بالنسبة للدولة التي عرفت زوال أعمدة النظام عن طريق حراك جماهيري واجتماعي، وأقصد بها دولا كتونس وليبيا فمازالت التجارب في مهدها ولا يمكن الحكم أو الجزم بنجاحها على المدى المتوسط أو القريب، إلا أن المؤشرات الحالية توحي بصعوبة الانتقال والفراغ المؤسساتي وظهور فزاعات سياسية مروعة!

وتبقى اَليات الانتقال عبر التوافق التعاقدي، وهو الانتقال الذي ينطبق عليه مفهوم «عقلنة التغيير بدول التثوير والتهييج»، الكفيلة بإحداث ثورة سياسية هادئة بعيدا عن ويلات الفوضى واللامجهول.....

إن استقراء تجارب الأمم وتاريخ الدول يحيلنا إلى قاعدة مركزية في بناء الدولة ما بعد الاستعمار أو الدولة ما بعد انهيار النظام الدكتاتوري، ألا وهي الوحدة الوطنية وقوة السلطة المركزية أولا وقبل كل شيء؛ ثم بعد ذلك يمكن للسكان، وبعد تراض عام، اختيار النمط المناسب في الصفة الإدارية لجهات الدولة.

الوحدة تشمل وحدة الدولة والوطن والتراب التي لا يمكن لأي فيدرالية (مثل ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية) أو جهوية متقدمة (كإسبانيا) أن تتم إلا في نطاقها..

كما أن الوحدة يجب أن تشكل عاملا أساسيا لتقوية الصفة الإدارية للدولة من جهوية موسعة أو فدرالية أو غير ذلك، وعاملا لتقوية الاندماج الاقتصادي والاجتماعي لأن من أسباب وجودها هو المساهمة بشكل حاسم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلد، وفي الاستثمار الأمثل للمؤهلات والموارد الذاتية لكل جهة واستنهاض همم مختلف الفاعلين المحليين، والمشاركة في تصور وإنجاز المشاريع المهيكلة الكبرى وتقوية جاذبية الكيانات الترابية للبلد.

أما القول مثلا في دول كليبيا ومدن كبرقة انها عانت من الحكم الجائر للقذافي وقد حان موعد رد الحقوق إلى أهلها وإعلان طلاق بائن مع السلطة المركزية، فهذا يخالف المعقول في أدبيات بناء الدول، وقد يدخل البلاد في مرحلة خطيرة جدا لن تحمد عقباها.

إن أولى الأولويات اليوم هو تحقيق الوحدة الترابية والوطنية والتي انطلاقا من وجودها يمكن تصور كيانات جهوية بناء على استفتاءات وانتخابات تكون تأكيدا سياسيا للتميز الغني بتنوع روافده القبلية والمجالية المنصهرة في هوية وطنية موحدة؛ ثم فيما بعد، على تلك الكيانات الالتزام بالتضامن، إذ لا ينبغي اختزال الجهوية مثلا في مجرد توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات؛ ثم ثالثا يجب اعتماد التناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات وتفادي تداخل الاختصاصات أو تضاربها بين مختلف الجماعات الترابية والسلطات والمؤسسات؛ ثم أخيرا ترسيخ أسس الحكامة الترابية الناجعة والمقاربة الترابية العقلانية والواقعية.

وإذا فهم الجميع هاته المسألة فكثيرة هي المشاكل والفتن التي سقط فيها الناس ستهدأ أو تزول. وللأسف فإن العديد منا يتناسى هاته المسألة وما يقع اليوم في العراق طامة كبرى ومصيبة آزفة ليس لها من دون الله كاشفة...

ومثل المتناسي لضرورة قبل الآخر كمثل أولئك الذين وصفهم ابن خلدون في مقدمته عندما تحدث عن أناس يتلذذون بتغيير حقائق التاريخ أو الخوض فيه دون الإلمام بقواعده حتى زلت أقدام الكثيرين وعلقت بأفكارهم مغالطات ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا روية واندرجت في محفوظاتهم...فالكثير ممن يشعلون الفتن الطائفية في بعض الدول العربية كالعراق وليبيا ينقلون إلى أعوام الناس أمورا واهية لا يرجعون حقائقها إلى الأصول الصحيحة المبنية على الرحمة وقبول الاَخر والحوار البناء والمجادلة بالتي هي أحسن.

فنجد ابن خلدون مثلا يقول عن المغالطين لحقائق التاريخ: «فلذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعبا لأسباب كل خبره، وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا، وإلا زيفه واستغنى عنه «.

وهذا كلام لابن خلدون يعي ما يكتبه وهو مرجع في علوم الاجتماع قديما وحديثا... ونفس الأمور التي قالها عن منتحلي علم التاريخ يقال عن منتحلي علم المذاهب والسياسة؛ فمن الغلط الخفي الذهول عن تاريخ المذاهب وقواعد السياسة الجامعة؛ وهو داء دوي شديد الخفاء كثير الضرر قد تدخل شعوبا عن بكرة أبيها في الفتن ما ظهر منها وما بطن (والفتنة أشد من القتل). والأجيال الصاعدة إذا لم تطعم بحقائق ثابتة ومفاهيم راسخة نكون قد ضيعنا عليها قواعد العيش المشترك: سنة الله التي قد خلت في عباده.

مقالات أخرى للكاتب