Saturday 21/06/2014 Issue 15241 السبت 23 شعبان 1435 العدد
21-06-2014

وهم الخبير بين العبقرية والجنون

في عصرنا الحاضر القائم على العلم والمعرفة، يلعب الخبير دوراً رئيساً في توجيه المجتمعات للتقدم أو للتخلف. فقيام المجتمعات المدنية الحديثة اليوم على العلوم المعقدة والبالغة التخصص أعطت الخبير قوة احتكارية في توجيه القرار الإداري أحياناً أو في التحكم فيه أحياناً أخرى. ومن هنا ظهرت الحاجة الشديدة والملحة للإداريين الذين يتمتعون بمقدرة قوية على التفكير الإستراتيجي العميق في تحليلاته، والدقيق في ملاحظاته، القادر على الربط بين منطق آراء الخبراء في التخصصات المختلفة أو الحكم بين آرائهم المتناقضة في التخصص الواحد. فالقيادة الإدارية العليا اليوم ليست إدارة لأفراد في مجموعة، بل هي إدارة لآراء الخبراء، تُمحص صحة منطقها ثم تجمع بين متناقضها وتفرق بين متعارضها، لقيادة عملية استخراج القرار الإستراتيجي الأمثل، الذي تحتاجه المنظمة.

فالفارق بين القائد والخبير فارق مؤثر وعظيم. فتركيبة عقل كل منهما تختلف عن الآخر. فعقلية القائد تتبع التسلسل المنطقي بطريقة أفقية، بينما عقليه الخبير تتبع التسلسل المنطقي بطريقة عمودية. فالقائد لا يقدر على حصر فكره في مكان أو حيز واحد وهذا سر موهبته، وعلى عكسها تكون سر موهبة الخبير. فسر موهبة الخبير قدرته على حصر فكره في حيز واحد. وكلما ضاق حيز فكر الخبير تفوق في تخصصه.

فالخبير الماهر المتمكن لا يتوقف عن تتبع موضوعه بالتسلسل المنطقي العمودي، صعوداً وهبوطاً، ولا يستطيع النظر إلى التشابك المنطقي الأفقي مع آراء الخبراء الأخرى. ولهذا فشل عباقرة خبراء صناديق التحوط والبورصة من تنبؤ الأزمة المالية، فهم خبراء مضاربة واستثمار وليسوا قادة لقرارات إستراتيجية، التي هي في طبيعتها عريضة الأفق بعيدة في مداها الزمني.

فالقيادة الإستراتيجية تحتاج تفكيراً تسلسلياً أفقياً، يربط منطقياً بين منطق النتائج والحقائق المختلفة والمتباعدة. ولهذا أخبر عليه السلام عن عبقرية الفاروق بقوله «فما رأيت عبقرياً يفري فريه»، فلم يكن الفاروق يتميز بعلم معين كبعض الصحابة.

وفي عصرنا الحاضر خاصة، يتطلب من منصب الإدارات العليا أن يكون شاغلها له حد أدنى من الإلمام بتخصصات المنظمة. وهو شرط لازم في حالة نمو منظمة متطورة في ظل تنافسية قوية. لذا فما يُنسب من نجاح وعبقرية لكثير من الإداريين المشهورين في البلاد المتخلفة، ليس صحيحاً في الحقيقة. فمثلاً، أي متوسط الموهبة والقدرات متابع لعمله، ينجح نجاحاً متميزاً في إدارة بنك أو شركة طيران في اقتصاد مركزي أو معدوم المنافسة، كبلادنا مثلاً، وخاصة مع اعتمادنا شبه الكلي على الأجانب. ولكن القائد هو الذي يحافظ على النمو والتطور لمنظمته في بلد شديد المنافسة وفي ظل اقتصاد حر خال من الدعم الخاص والعام.

وإن كانت عقلية القائد وعقلية الخبير قد اختلفتا في تركيبتهما المنطقية، إلا أن كلاهما لا بد أن يكون نبيهاً لحاظاً لا تفوته شاردة ولا واردة من معلومة أو فكرة أو كلمة أو خاطرة. فبدون هذه القدرة لن يرتقي الخبير كثيراً في تفكيره العمودي، ولن يري القائد الفرص والمخاطر والمهالك، بتفكيره الأفقي، في اللوحة الواسعة المتشابكة، التي يُخط فيها كل خبير بخط أو مجموعة خطوط، فتصبح وكأنها مجمع للجن في مفازة مهلكة.

وللتمثيل التطبيقي على ما سبق، فلو أننا تتبعنا التسلسل المنطقي العمودي لهذا المقال، فالتساؤل الذي يمكن طرحه على الخبير الاجتماعي: لم تندر العبقرية عموماً عندنا، رغم أننا في رفاهية عيش، ورفاهية العيش تؤدي للترف الفكري؟

فنحن نرى أحياناً - وفي الغرب خاصة - بعض أساتذة الجامعات والأطباء وخبراء التقنية والمال والكمبيوتر ونحوها، فنظن أن بهم جنوناً. وما هذا إلا أنه غارق في مسائله التي ينظر فيها باحثاً عن حل أو إجابة، حتى يصل إلى مستويات موغلة في البعد عن أفهام الناس. فيصفونه عندها بالجنون أو أنه قارب إلى الجنون، وما هو إلا أنه تعدى زمنه الفكري بمراحل زمنية أبعد من أن يحتملها فكر زمانه.

ولذا، فقولهم عبقري مجنون، أو عبقري إلى حد الجنون، قول لم يأتِ من فراغ. فنحن - والحمد الله - لا يوجد عندنا أحد من هؤلاء العباقرة ليفتحوا علينا أبواباً مغلقة. لأننا نقطع دابر شياطين عبقريتهم من طفولتهم. فلا تجد طفلاً يسأل سؤالاً، فإذا أجيب عليه، قام وركب عليه سؤالاً آخر إلا ويُفحم بإجابة سلبية. كأها بس وهكذا هي الأمور ولا تعود للتفكير في هذا. فإذا قام الطفل وركب على هذه الإجابة السلبية سؤالاً ثالثاً، فعندها تأتيه الإجابة سريعة في صفعة على خده أو رفسة في بطنه، أو عصا تلهب ظهره أو أسطورة ترهبه. فنستأصل فطرة مقدرته على التفكير المركب، بل ونجعله عدواً كارهاً لها. وما أسهل القطع والهدم، فيغدو طفلنا المولود من أحمق الناس وهو الذي وُلِد عبقرياً فطرة وخلقة.

وهذه نتيجة وسطية تقدح في رأس قائد المنظمة -البحثية الاجتماعية، مثلاً في مثالنا-، نتيجة مركبة مُتقدمة وهي: أن من عوامل التخلف الفكري عند المسلمين هو قتلهم للعبقرية في مهدها، واتهامها بالجنون كما كانت النصاري من قبل النهضة تتهم صاحبها بالسحر والشعوذة، فتحرقه حياً مصلوباً. هذه النتيجة هي تسلسل منطقي أفقي أتى من نتيجة بحث الخبير الاجتماعي السابقة، لا يستطيع الخبير الوصول إليها. فهي حقيقة جانبية حاضرة، وحقيقة جانبية أخرى تاريخية، شكلتا مع النتيجة السابقة نقطة جديدة أعلى عمودياً في تسلسلها المنطقي ممكن إعطاؤها للخبير ليبحث فيها، فنرى بماذا يخرج من نتيجة تخطو بنا خطوة متقدمة أخرى. وهذا هو الفرق بين الإداري والخبير. وكلاهما قد يكون عبقرياً، وهل ينهض بالأمم إلا عباقرتها في شتى فنون ومجالات الحياة.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب