Friday 27/06/2014 Issue 15247 الجمعة 29 شعبان 1435 العدد
27-06-2014

وبماذا تحدث أبو تمام عن مدينة الموصل أيضا ياعبد الله البردوني

رثاء المدن من الفنون الأدبية التي أبدع فيها الشعراء العرب لكثرة بكائهم مدنهم المستباحة، ولم تكن هناك صرخة على مدينة في القرون المتأخرة مثل صرخة البردوني شاعر اليمن الضرير حينما أرسل قصيدته إلى أبي تمام، وقال فيها:

مَاذا أُحَدّثُ عنْ صَنْعاءَ يَاأبتِي.. مَلِيحةٌ عَاشِقَاها السِّلُّ والجَرَبُ

وماذا لو عاش البردوني إلى اليوم ورأى صنعاء التي أثقلتها الهموم والجوع والفقر والحصار، فحال صنعاء اليوم قد تجاوزت السل والجرب اللذين احتفلت البشرية بانتهائهما من حياتها إلى الأبد ولكنها لاتزال كامنة فيروساتها في أعرق المدن الإنسانية وأقدم الحضارات الإنسانية على الإطلاق، وكأنها مدينة وهران التي كتب عنها ألبير كامو رواية الطاعون، وماذا لو رأى الطائفيين ومافعلوه بها طيلة السنوات الماضية وردة الفعل اليوم من طلائع المقاتلين وهم يدخلون الموصل مرقد صاحبه أبي تمام، ليكون الإنسان والتاريخ بأكمله أمام مسؤوليات تاريخية يتحملها الطرفان على السواء وتتحملها الأمة منذ عقود بل قرون، كان من نتيجتها اليوم استباحة تاريخ الموصل والتطاول على تاريخ أبي تمام الشاعر الملهم بالبديع، إنهم مدانون جميعا حينما يستبيحون حرمة المدينة وتاريخها ويهدمون تمثالها مثلما هدموا تمثال أبي العلاء المعري في معرة النعمان قبل سنة تقريبا ليكون قدر هذه الشواهد الحضارية الهدم والإزالة على يد من لايعرف للحضارة قيمتها ولايدرك أن شخصية أبي تمام وأبي العلاء والمتنبي عند الأمة أكبر من نصب أحجار وبرونز لاوزن لها لولا القيمة المعنوية لأصحابها ولايمكن أن تعبد من دون الله، وبالرغم من موقفي الشرعي وهو الموقف الرافض للتماثيل وتشييدها للأحياء والموتى لوجود نص صريح في ذلك إلا أن هدمها ليس أولوية في هذا الوقت لأن العالم المتمدن ومؤسساته الحضارية والتراثية يرى هدمها همجية وتصرفا لايليق من باب يختلف تماما عما في ذهنية المحطمين ومن يصفق لهم، ويرعب تلك المؤسسات مثل هذا الإجحاف بحق شواهد التاريخ لأن الغرب لايتصور أن يُهدم تمثال لشاعر خشية أن يعبده الناس من دون الله جل وعلا وبخاصة أن العقل البشري تطور كثيرا عن الجاهلية الأولى بمراحل لاتقبل عبادة الأحجار وتماثيل التمر كما كان أيام بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والعقل السليم، ولم يعد يقبل أن يدخل المتحمسون الله جل جلاله في سباق مع خلقه والمخلوقات التافهة، وفي صورة تبين مقياس التحضر والتمدن عند الشعوب في أقسى غضبها الجمعي وموقفها القومي نجد أن التاريخ لايمكن أن ينسى موقف القوات المتحالفة التي هزمت ألمانيا وحلفائها في الحرب العالمية الثانية حينما دخلت برلين، فعمدت إلى المتاحف والكنوز الحضارية وحفظتها في أكياس رسمية مختومة لتعود يوما ما إلى مكانها دون التفكير بقيمتها التي لاتقدر بثن بينما في عالمنا العربي يعمد الناس في أي انفلات أمني إلى مثل هذه الكنوز والتماثيل والموميات والمخطوطات لحرقها وتكسيرها ونهبها بصورة تدل على التخلف الحضاري..

حلب ودمشق وحماة والموصل وتكريت والقاهرة وبو زيد ومصراته وسرت وصنعاء وعدن وحضرموت وغيرها من مدن العالم الإسلامي وحواضره التي دمرت حضارتها وقلاعها وشواهدها التاريخية بالبراميل المتفجرة وبالقنابل والجنازير وكأن المدن الصامتة والحضارة الشاهدة هي العدو، ونشهد الله جل وعلا أننا أمام كل مدينة تمسح من الخارطة وكل مشهد حضاري يهشم وقلعة تاريخية تقلع من جذورها لانملك إلا زفرات أشبه بزفرة أبي عبد الله الصغير على عتبات غرناطة في نظرته الأخيرة لها..

منذ تلك الزفرة والعرب يمرون بأحداث ووقائع أعقبت زفرات أشد حرارة ودموعا أكثر حزنا من دمعته وهو يغادر على صدى كلمات أمه التي كانت أشد صفعا من تقلب الزمان وأقسى على قلبه من وقع سنابك خيوله وهو يغادر غرناطة إلى الأبد حينما عيرته أمه ببكائه كالنساء لأنه أضاع ملكاً لم يحافظ عليه كالرجال، كانت تلك الزفرة نتيجة حتمية لسلسلة تاريخ ذكوري دموي تماما كما في مسلسل الأخوة الأعداء المأخوذ من قصه للمؤلف الروسي ديستوفسكي الأخوه كرامازوف منذ بواكير الفجر الإسلامي وقبل أن يصل المسلمون إلى ضحاه على رأي أحمد أمين، صراعات على الدنيا وشغل عن الرسالة وفتن كالليل المظلم اجتاحت الساحة الإسلامية التي ما إن صحت بعد ليل الجاهلية الطويل إلا وتكتسحها المعارك الكبرى والاغتيالات السياسية التي طالت ثلاثة من الخلفاء الراشدين الذين زكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات وهو راض عنهم، ثم توالت المؤامرات والاغتيالات والكوارث والسبب بسيط جدا وهو الحاكمية التي أفقدت الأمة استقرارها لأنها منطقة شديدة الإغراء..

حروب أهلية وصراع أسري منذ القرن الأول الهجري ولم يتعلم من دروسه أحد، بل تمت شرعنة كل أساليب قتل الأباء والأخوة والأبناء من أجل الحاكمية وسلطتها المغرية ولم يستفد من نتائجها الأسر والأفراد والجماعات، والكارثة أن الأمة تدفع فواتير ذلك قاطبة في كل مرحلة من مراحل تاريخها حتى دفعت ثمن الصراع بين الأمين والمأمون مالم تدفعه أمة إلى اليوم فكانت الطائفية بين الشيعة والسنة بهذا الشكل الممنهج والمقزز، ودفعت النكبة بأسرة البرامكة (أسرة سنية، كانت تتميز بالأدب والثقافة والسياسة والكرم) على عهد الرشيد بالأمة إلى الشعوبية والصراع بين العرب والعجم إلى اليوم، ولاتزال الذهنية العربية تستحضر هذه الكارثة الإنسانية بكل غباء، ولو كانوا حاضرين المشهد لما صار بين الامين والمأمون كل هذا الخلاف الذي كان عقوبة القسوة على هذا البيت السياسي، وكم من مغامرين سيطروا على مفاصل الأمة فعاثوا بها وبمستقبلها وكم من برامكة تم البطش بهم لمسوغات غير موضوعية تماما، فكان تاريخنا مملوءا بحروب أبطالها منا وضحاياها فينا ومحصلتها أننا كنا نخوضها ولا ندري، ومن غنائمها الخوارج والقاعدة وداعش والإخوان وغيرها، وكل أخ يسل سيفه في وجه أخيه وكلاهما يصرخ الله أكبر، حروب باسم الله وقتل باسم الله والله جل وعلا بريء من انتصارات وهمية على الذات وهي في حقيقتها هزائم حينما تقطع أواصر الأخوة وعرى الإسلام، فأي انتصارات بكل أسف تكون غنائمها دماء الأخوة وسماسرتها الأصدقاء، أمجادنا قامت على جماجمنا ومشروعاتنا كانت شخصية تنتهي بزفرة صغيرة ربما كانت من مغامر ودمعة ربما كانت من صغير تعير بها رجولة أجيال الأمة كلها ولم تكن مقصورة على أهل الأندلس الذين خرجوا بعد ثمانية قرون دونما أي أثر معنوي ولولا مجموعة من مخطوطات في الأوسكريال لما عرف التاريخ أن العرب كانوا هنا ذات يوم..

التاريخ لايرحم، والتاريخ لايصدر تعليماته ونصائحه لمعاصريه ويقول افعلوا كذا ولاتفعلوا كذا، ولكنه يقول لم فعلتم كذا وكيف فعلتم كذا وأين فعلتم كذا، وهو محترف لجدلية الأسئلة وفن إلقائها وبقسوة ولايحرص على تلقي الإجابات والمسوغات وبخاصة إن كانت مثل بيض الأفاعي الذي كان بحاجة لمرحلة دافئة كي يفقس وينفث سمه الزعاف، لأن أدوات التحليل والتفكيك تزداد يوما بعد يوم وماقد نعذر فيه اليوم سيأتي من لايعذرنا فيه بناء على معطياته التاريخية دون بحث في تفاصيل الحقيقة، التاريخ يحترف الإدانة والمحاكمة وربما كانت بقضاة وشهود وشخصيات وأدوات غير مؤهلة تماما وربما كانت أكثر تأهيلا مما نتصور وكل ذلك في ظل غيبوبة قومية كاملة قبل مئات السنين واستحضار مديونياتها وفواتيرها وغنائمها في حق أجيال مضت وأجيال تأتي، وما من سبيل للخروج من الأزمة الطويلة الأمد بل الأزمات التاريخية إلا بالاعتراف بأنه ما من ديمقراطية أو تمدن أو انقشاع لهذه السحب السوداء في سمائنا من دون اعتراف كامل بكل الأخطاء التاريخية مع الذات ومع الآخر على حد سواء والتصحيح فورا عن طريق التنازلات في ظل عقد اجتماعي يحترم الإنسان على أي صيغة خلقه الله جل وعلا ويحترمه الجميع مهما كانت قسوته، وإلا لن تكون زفرة أبي عبد الله الصغير آخر زفرة ولن يكون أبو عبد الله العربي الأخير الذي يبكي قهرا على تفريطه في سياسة الأمة..

ولا أدري لماذا كان قدر العرب هذه الحال التي استعصى حلها على الإسلام العظيم وبخاصة أن كثيرا من الدول المتقدمة اليوم كأوروبا وأمريكا صاغت دساتيرها ومستقبلها السياسي وموقفها الحضاري متأثرة بالمذهب المالكي وغيره من مذاهب الإسلام في الأندلس وشمال أفريقيا آنذاك فاستقر نظامها واستقرت شعوبها بينما أصيبت العرب منذ الفجر الأول في هويتها بجرح بالغ نتيجة غياب السياسة الشرعية وحضور الأحلام الشخصية والأمجاد المزيفة للأحزاب والتنظيمات والمجموعات، ونزفت من الزفرات والدموع حتى جفّت عيونها، وفقدت القدرة على الاستجابة تماماً، لأنها تجاهلت الاستفادة من البحث في التاريخ حينما جعلته مقدسا وغير قابل لمعرفة الأخطاء الشخصية لرجالاته..

وأخيرا.. العرب لم يتوقف نزيفهم منذ القرن الأول الهجري ولايزال، وقدرهم مؤلم حد الشفقة، ولم يتجاوزوا التراجيديا المبكية، ومافعلته بهم أنفسهم أكثر مما فعلته بهم الطائفية والعصبية والأممية، وأصبحنا نحن العرب والمسلمين في كل مرحلة من مراحل التاريخ على وعد بهدم مدينة من مدننا العريقة وكان القدر المؤلم لمدينة الموصل مدينة أبي تمام الذي توفي بها هذه المرة، ولاندري أي مدينة عريقة من مدننا الحضارية سيطالها التدمير فيما بعد..

abnthani@hotmail.com

عميد الموهبة والإبداع والتميز البحثي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

مقالات أخرى للكاتب